قوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام     . 
قوله : ويذكروا منصوب بحذف النون ; لأنه معطوف على المنصوب بـ " أن " المضمرة بعد لام التعليل ، أعني قوله : ليشهدوا منافع لهم    . 
وإيضاح المعنى : وأذن في الناس بالحج يأتوك مشاة وركبانا ; لأجل أن يشهدوا منافع لهم ، ولأجل أن يتقربوا إليه بإراقة دماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، مع ذكرهم اسم الله عليها عند النحر والذبح ، وظاهر القرآن يدل على أن هذا التقرب بالنحر في هذه الأيام المعلومات ، إنما هو الهدايا لا الضحايا ; لأن الضحايا لا يحتاج فيها إلى الأذان بالحج ، حتى يأتي المضحون مشاة وركبانا ، وإنما ذلك في الهدايا على ما يظهر ، ومن هنا ذهب مالك  ، وأصحابه إلى أن الحاج بمنى  لا تلزمه الأضحية ولا تسن له ، وكل ما يذبح في ذلك المكان والزمان ، فهو يجعله هديا لا أضحية . 
وقوله : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم  أي على نحر وذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام    ; ليتقربوا إليه بدمائها ; لأن ذلك تقوى منهم ، فهو يصل إلى ربهم كما في قوله تعالى : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم    [ 22 \ 37 ] ، وقد بين في بعض المواضع أنه لا يجوز الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه منها ؛ كقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه    . وقوله : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه    [ 6 \ 119 ] ، وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل الحرم المكي  منسكا تراق فيه الدماء تقربا إلى الله ، ويذكر عليها عند تذكيتها اسم الله ، ولم يبين في هذه الآية ، هل وقع مثل هذا لكل أمة أو لا ، ولكنه بين في موضع آخر : أنه جعل مثل هذا لكل أمة من الأمم ، وذلك في قوله تعالى :   [ ص: 115 ] ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام    [ 22 \ 34 ] . 
وإذا علمت أن من حكم الأذان في الناس بالحج ، ليأتوا مشاة ، وركبانا تقربهم إلى ربهم بدماء الأنعام ، ذاكرين عليها اسم الله عند تذكيتها ، وأن الآية أقرب إلى إرادة الهدي من إرادة الأضحية ، فدونك تفصيل أحكام الهدايا التي دعوا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم منها . 
اعلم أولا : أن الهدي قسمان : هدي واجب ، وهدي غير واجب ، بل تطوع به صاحبه تقربا بالله تعالى ، والأيام المعلومات التي ذكر الله عز وجل أنه يذبح فيها ، ويذكر عليه اسم الله فيها - للعلماء فيها أقوال كثيرة . والتحقيق إن شاء الله تعالى : أن غير اثنين من تلك الأقوال الكثيرة باطل لا يعول عليه ، وأن المعول عليه منها اثنان ; لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات هي أيام النحر ، بدليل قوله : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام  وذكرهم الله عليها يعني : التسمية عند تذكيتها . فاتضح أنها أيام النحر ، ويومان بعده ، وعليه فلا يذبح الهدي ، ولا الأضحية في اليوم الأخير من أيام منى  ، الذي هو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة . 
قال  ابن قدامة  في " المغني " : وهذا القول نص عليه أحمد  ، وقال : وهو عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الأثرم  عن  ابن عمر   وابن عباس  ، وبه قال مالك   والثوري  ، ويروى عن علي    - رضي الله عنه - أنه قال : أيام النحر : يوم الأضحى ، وثلاثة أيام بعده   . وبه قال الحسن  ، وعطاء  ،  والأوزاعي  ،  والشافعي  ، وابن المنذر    . انتهى محل الغرض منه . 
وقال أبو عبد الله القرطبي  في تفسير هذه الآية : اختلفوا كم أيام النحر    . فقال مالك    : ثلاثة ، يوم النحر ويومان بعده ، وبه قال أبو حنيفة  ،  والثوري  ،  وأحمد بن حنبل    . وروي ذلك عن  أبي هريرة  ،  وأنس بن مالك ،  من غير اختلاف عنهما . 
وقال  الشافعي    : أربعة أيام ، يوم النحر ، وثلاثة بعده ، وبه قال  الأوزاعي  ، وروي ذلك عن علي    - رضي الله عنه -  وابن عباس  ،  وابن عمر    - رضي الله عنهم - . وروي عنهم أيضا مثل قول مالك  وأحمد    . انتهى محل الغرض منه . 
وقال أيضا : قال  أبو عمر بن عبد البر    : أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم   [ ص: 116 ] أضحى . وأجمعوا على أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة  ، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان : 
أحدهما : قول مالك  والكوفيين . 
والآخر : قول  الشافعي  ، والشاميين ، وهذان القولان مرويان عن الصحابة ، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما ; لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ، ولا في قول الصحابة ، وما خرج عن هذين فمتروك لهما ، ا هـ . 
وقال النووي  في " شرح المهذب " : في وقت ذبح الهدي طريقان : أصحهما وبه قطع العراقيون وغيرهم : أنه يختص بيوم النحر وأيام التشريق ، والثاني : فيه وجهان أصحهما : هذا ، والثاني : لا يختص بزمان كدماء الجبران . فعلى الصحيح لو أخر الذبح ، حتى مضت هذه الأيام ، فإن كان الهدي واجبا : لزمه ذبحه ، ويكون قضاء ، وإن كان تطوعا فقد فات الهدي . 
قال  الشافعي  والأصحاب : فإن ذبحه كان شاة لحم لا نسكا . انتهى محل الغرض منه . 
وذكر النووي  عن الرافعي    : أنه في بعض المواضع من كتابه في باب صفة الحج ، جزم بأنه لا يختص بيوم النحر ، وأيام التشريق ، وأنه ذكر المسألة على الصواب في باب الهدي . 
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : القول بعدم الاختصاص بيوم النحر ويومين أو ثلاثة بعده ظاهر البطلان ; لأن عدم الاختصاص يجعل زمن النحر مطلقا ، ليس مقيدا بزمان ، وهذا يرده صريح قوله : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام  ، فجعل ظرفه أياما معلومات يرد الإطلاق في الزمن ردا لا ينبغي أن يختلف فيه كما ترى . 
وقال النووي  أيضا في " شرح المهذب " : اتفق العلماء على أن الأيام المعدودات  هي : أيام التشريق ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، ا هـ . 
ولا وجه للخلاف في ذلك ، مع أنه يدل عليه قوله تعالى متصلا به : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه  الآية ، والمراد بذلك : أيام الرمي التي هي أيام التشريق كما ترى ، ثم قال النووي    : وأما الأيام المعلومات فمذهبنا : أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر . انتهى محل الغرض منه . وعزا ابن كثير  هذا القول  لابن عباس  قال : وعلقه عنه  البخاري  بصيغة الجزم ، ونقله ابن كثير  أيضا عن  أبي موسى الأشعري  ، ومجاهد  ، وقتادة  ،   [ ص: 117 ] وعطاء  ،  وسعيد بن جبير  ، والحسن  ، والضحاك  ،  وعطاء الخراساني  ،  وإبراهيم النخعي  ، قال : وهو مذهب  الشافعي  ، والمشهور عن  أحمد بن حنبل  ، ثم شرع يذكر الأحاديث الدالة على فضل الأيام العشرة الأول من ذي الحجة . 
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : تفسير الأيام المعلومات في آية الحج هذه : بأنها العشر الأول من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر ، لا شك في عدم صحته ، وإن قال به من أجلاء العلماء ، وبعض أجلاء الصحابة من ذكرنا . 
والدليل الواضح على بطلانه أن الله بين أنها أيام النحر بقوله : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام  وهو ذكره بالتسمية عليها عند ذبحها تقربا إليه كما لا يخفى ، والقول بأنها العشرة المذكورة ، يقتضي أن تكون العشرة كلها أيام نحر ، وأنه لا نحر بعدها ، وكلا الأمرين باطل كما ترى ; لأن النحر في التسعة التي قبل يوم النحر لا يجوز والنحر في اليومين بعده جائز . وكذلك الثالث عند من ذكرنا ، فبطلان هذا القول واضح كما ترى . ثم قال النووي  متصلا بكلامه الأول ، وقال مالك    : هي ثلاثة أيام : يوم النحر ، ويومان بعده فالحادي عشر ، والثاني عشر عنده من المعلومات ، والمعدودات . 
وقال أبو حنيفة    : المعلومات ثلاثة أيام : يوم عرفة  والنحر والحادي عشر . وقال علي    - رضي الله عنه - : المعلومات أربعة : يوم عرفة  والنحر ويومان بعده . 
وفائدة الخلاف : أن عندنا يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها ، وعند مالك  لا يجوز في اليوم الثالث . هذا كلام صاحب البيان ، انتهى من النووي    . وقد سكت على كلام صاحب " البيان " : وهو باطل بطلانا واضحا ; لأن القول بأن الأيام المعلومات هي العشرة الأول ، لا يدل على جواز الذبح فيما بعد يوم النحر لأنه آخرها ، وقد يدل على جواز الذبح قبل يوم النحر في جميع التسعة الأول ; لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات ، هي ظرف الذبح ; كما بينا مرارا فإن كانت هي العشرة كانت العشرة هي ظرف الذبح . فلا يجوز فيما قبلها ولا ما بعدها ، ولكنه يجوز في جميعها ، وبطلان هذا واضح كما ترى ، ثم قال النووي  متصلا بكلامه السابق . 
وقال العبدري    : فائدة وصفه بأنه معلوم جواز النحر فيه ، وفائدة وصفه بأنه معدود انقطاع الرمي فيه . وقال : وبمذهبنا قال أحمد  ، وداود  ، وقال الإمام  أبو إسحاق الثعلبي  في تفسيره : قال أكثر المفسرين : الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة . قال : وإنما قيل   [ ص: 118 ] لها معلومات للحرص على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها . 
قال : وقال مقاتل    : المعلومات أيام التشريق . وقال  محمد بن كعب    : المعلومات والمعدودات واحد . 
قلت : وكذا نقل  القاضي أبو الطيب  والعبدري  ، وخلائق - إجماع العلماء على أن المعدودات هي أيام التشريق . وأما ما نقله صاحب البيان عن  ابن عباس  فخلاف المشهور عنه . 
فالصحيح المعروف عن  ابن عباس    : أن المعلومات أيام العشر كلها كمذهبنا ، وهو مما احتج به أصحابنا ، كما سأذكره قريبا إن شاء الله . واحتج لأبي حنيفة  ، ومالك  بأن الله تعالى قال : ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام  ، وأراد بذكر اسم الله في الأيام المعلومات : تسمية الله تعالى على الذبح ، فينبغي أن يكون ذكر اسم الله تعالى في جميع المعلومات ، وعلى قول  الشافعي    : لا يكون ذلك إلا في يوم واحد منها ، وهو يوم النحر . واحتج أصحابنا بما رواه  سعيد بن جبير  ، عن  ابن عباس  قال : الأيام المعلومات أيام العشر ، والمعدودات أيام التشريق . رواه البيهقي  بإسناد صحيح . 
واستدلوا أيضا بما استدل به المزني  في مختصره : وهو أن اختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات ، فلما خولف بين المعدودات والمعلومات في الاسم دل على اختلافهما ، وعلى ما يقول المخالفون يتداخلان في بعض الأيام ، والجواب عن الآية من وجهين : 
أحدهما : جواب المزني    : أنه لا يلزم من سياق الآية : وجود الذبح في الأيام المعلومات ، بل يكفي وجوده في آخرها وهو يوم النحر . 
قال المزني  والأصحاب : ونظيره قوله تعالى : وجعل القمر فيهن نورا    [ 71 \ 16 ] ، وليس هو نورا في جميعها ، بل في بعضها . 
الثاني : أن المراد بالذكر في الآية الذكر على الهدايا ، ونحن نستحب لمن رأى هديا أو شيئا من بهيمة الأنعام في العشر أن يكبر ، والله أعلم . انتهى كلام النووي    . 
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن مذهب الشافعية في الأيام المعلومات خلاف الصواب ، وإن قال به من قال من أجلاء العلماء ،   [ ص: 119 ] وأن الأجوبة التي أجابوا بها عن الاعتراضات الواردة عليه ، لا ينهض شيء منها لما قدمنا من أن الله بين في كتابه ، أن الأيام المعلومات هي ظرف الذبح والنحر ، فتفسيرها بأنها العشرة الأول ، يلزمه جواز الذبح في جميعها ، وعدم جوازه بعد غروب شمس اليوم العاشر ، وهذا كله باطل كما ترى . 
وزعم المزني    - رحمه الله - : أن الآية كقوله : وجعل القمر فيهن نورا    - ظاهر السقوط ; لأن كون القمر كوكبا واحدا والسماوات سبعا طباقا - قرينة دالة على أنه في واحدة منها دون الست الأخرى . 
وأما قوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام  ، فظاهره المتبادر منه أن جميع الأيام المعلومات ظرف لذكر الله على الذبائح ، وليس هنا قرينة تخصصه ببعضها دون بعض . فلا يجوز التخصيص ببعضها ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وليس موجودا هنا . وتفسيرهم ذكر اسم الله عليها ، بأن معناه : أن من رأى هديا أو شيئا من بهيمة الأنعام في العشر استحب له أن يكبر ، وأن ذلك التكبير هو ذكر الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام - ظاهر السقوط كما ترى ; لأنه مخالف لتفسير عامة المفسرين للآية الكريمة ، والتحقيق في تفسيرها ما هو مشهور عند عامة أهل التفسير ، وهو ذكر اسم الله عليها عند التذكية ، كما دل عليه قوله بعده مقترنا به : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير  الآية [ 22 \ 28 ] . وقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه  الآية [ 6 \ 121 ] . 
وقوله : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه  الآية [ 6 \ 109 ] ، وتداخل الأيام لا يمنع من مغايرتها ; لأن الأعمين من وجه متغايران إجماعا مع تداخلهما في بعض الصور . 
ومما يبطل القول بأن الأيام المعلومات هي العشرة المذكورة : أن كونها العشرة المذكورة يستلزم عدم جواز الذبح بعد غروب شمس اليوم العاشر ، وهو خلاف الواقع لجواز الذبح في الحادي عشر والثاني عشر ، بل والثالث عشر عند الشافعية . والتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة : أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق التي هي أيام رمي الجمرات . وحكى عليه غير واحد الإجماع ، ويدل عليه قوله تعالى متصلا به : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه  الآية [ 2 \ 203 ] ، وأن الأيام المعلومات هي أيام النحر ، فيدخل فيها يوم النحر واليومان بعده ، والخلاف في الثالث عشر ، هل هو منها كما مر تفصيله ، وقد رجح بعض أهل العلم أن الثالث عشر منها . ورجح بعضهم : أنه ليس منها . 
 [ ص: 120 ] وقد قال  ابن قدامة  في " المغني " في ترجيح القول بأنه ليس منها ما نصه : ولنا " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأكل من النسك ، فوق ثلاث   " وغير جائز أن يكون الذبح مشروعا في وقت يحرم فيه الأكل ، ثم نسخ تحريم الأكل ، وبقي وقت الذبح بحاله ، ولأن اليوم الرابع لا يجب فيه الرمي ، فلم يجز فيه الذبح كالذي بعده . 
ومما رجح به بعضهم أن اليوم الرابع منها : أنه يؤدي فيه بعض المناسك : وهو الرمي ، إذا لم يتعجل فهو كسابقيه من أيام التشريق ، والعلم عند الله تعالى . 
ومما يوضح أن الأيام المعلومات هي أيام النحر ، سواء قلنا إنها ثلاثة ، أو أربعة : أن الله نص على أنها هي التي يذكر فيها اسم الله : أي عند التذكية ، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، كما قدمنا إيضاحه . 
				
						
						
