وإذا علمت وقت نحر الهدي ، وأن الهدي نوعان : واجب ، وغير واجب ، وهو هدي التطوع ، فهذه تفاصيل أحكام كل منهما .
أما الهدي الواجب : فهو بالتقسيم الأول نوعان :
أحدهما : هدي واجب بالنذر ، وسيأتي الكلام عليه ، إن شاء الله في الكلام على قوله تعالى : وليوفوا نذورهم [ 22 \ 29 ] ، وهدي واجب بغير النذر ، وهو أيضا ينقسم إلى قسمين :
[ ص: 121 ] أحدهما : الهدي المنصوص عليه .
والثاني : الهدي المسكوت عنه ، ولكن العلماء قاسوه على الهدي المنصوص عليه .
أما المنصوص عليه فهو أربعة أقسام :
الأول : ، ويدخل فيه القران ; لأن هدي التمتع الصحابة - رضي الله عنهم - جاء عنهم التصريح ، بأن اسم التمتع في الآية صادق بالقران ، كما قدمناه واضحا عن ، ابن عمر ، وغيرهما ، وعمران بن حصين والصحابة هم أعلم الناس بلغة العرب وبدلالة القرآن .
وهدي التمتع المذكور منصوص في قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] .
الثاني : المنصوص عليه في قوله : دم الإحصار فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] .
الثالث : المنصوص عليه بقوله تعالى : دم جزاء الصيد ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة الآية [ 5 \ 95 ] .
الرابع : المذكور في قوله : دم فدية الأذى ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] ، وهذه الدماء الأربعة اثنان منها على التخيير ، وهما : دم الفدية في قوله : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] كما قدمنا إيضاحه . والثاني : جزاء الصيد ، فهو على التخيير أيضا ، كما قدمنا إيضاحه مستوفى في الكلام على قوله : يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما الآية [ 5 \ 95 ] .
وقد أوضحنا الكلام على التخيير فيهما غاية الإيضاح بما أغنى عن إعادته هنا ، وواحد من الدماء الأربعة المذكورة على الترتيب إجماعا ، وهو دم التمتع الشامل للقران ; لأن الله بين أنه على الترتيب بقوله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] ثم قال مبينا الترتيب : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم الآية [ 2 \ 196 ] .
والرابع : من الدماء المذكورة اختلف فيه ، فمن قال : له بدل عند العجز عنه قال : هو على الترتيب ، ومن قال : لا بدل له فالأمر على قوله واضح ; لأنه ليس هناك تعدد ، [ ص: 122 ] يقتضي الترتيب أو عدمه ، وهذا القسم هو دم الإحصار وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة " البقرة " في الكلام على قوله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] .
والحاصل : أن ثلاثة من الدماء الأربعة المذكورة ، قد قدمنا الكلام على كل واحد منها ، بغاية الإيضاح ، والاستيفاء ، فدم الفدية قدمناه في مباحث آية " الحج " التي هي : وأذن في الناس بالحج [ 22 \ 27 ] . في جملة مسائل الحج ، التي ذكرنا في الكلام عليها .
ودم جزاء الصيد قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في " المائدة " في الكلام على قوله تعالى : هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما [ 5 \ 95 ] .
ودم الإحصار ، قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في " البقرة " في الكلام على قوله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي .
وأما هدي التمتع ، فلم يتقدم لنا فيه إيضاح ، وسنبينه الآن .
أما فمعلوم أن كل من اعتمر في أشهر الحج ، ثم حل من عمرته ، ثم حج من عامه ، ولم يكن أهله حاضري التمتع بالعمرة المسجد الحرام أنه متمتع .
وقد بينا أن الصحابة بينوا أنه يشمل القران من حيث إن كلا منهما عمرة في أشهر الحج مع الحج ، وإن كان بين حقيقتيهما اختلاف كما هو واضح .
اعلم أولا : أن العلماء اشترطوا لوجوب هدي التمتع شروطا :
منها : ما هو مجمع عليه .
ومنها : ما هو مختلف فيه .
الأول : أن ، فإن اعتمر في غير أشهر الحج ، لم يلزمه دم ; لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج ، فلم يلزمه دم كالمفرد ، ولا يخفى سقوط قول يعتمر في أشهر الحج : إنه متمتع ، كما لا يخفى سقوط قول طاوس الحسن : إن من اعتمر بعد النحر فهو متمتع .
وقال ابن المنذر : لا نعلم أحدا قال بواحد من هذين القولين :
قاله في " المغني " فإن أحرم بها في غير أشهر الحج ، ولكنه أتى بأفعالها في أشهر الحج ، ففي ذلك للعلماء قولان :
[ ص: 123 ] أحدهما : يجب عليه الدم نظرا إلى أفعال العمرة الواقعة في أشهر الحج .
والثاني : لا يجب عليه دم نظرا إلى وقوع الإحرام قبل أشهر الحج ، وهو نسك لا تتم العمرة بدونه ، ولكليهما وجه من النظر ، ولا نص فيهما ، وممن قال بأنه لا دم عليه ، وأنه غير متمتع . الإمام أحمد
قال في " المغني " : ونقل معنى ذلك عن جابر ، وأبي عياض . وهو قول إسحاق ، وأحد قولي ، وقال الشافعي : عمرته في الشهر الذي يدخل فيه الحرم . وقال طاوس الحسن ، والحكم ، ، وابن شبرمة ، والثوري في أحد قوليه : عمرته في الشهر الذي يطوف فيه . وقال والشافعي عطاء : عمرته في الشهر الذي يحل فيه ، وهو قول مالك . وقال أبو حنيفة : إن طاف للعمرة أربعة أشواط ، قبل أشهر الحج فليس بمتمتع ، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج ، فهو متمتع ; لأن العمرة صحت في أشهر الحج ، بدليل أنه لو وطئ أفسدها ، فأشبه إذا أحرم بها في أشهر الحج . قاله في " المغني " والله تعالى أعلم .
الشرط الثاني : أن . أما إذا كان حجه في سنة أخرى : فلا دم عليه . يحج في نفس تلك السنة ، التي اعتمر في أشهر الحج منها
قال صاحب " المهذب " : وذلك لما روى قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك ، لم يهدوا ، قال : ولأن الدم إنما يجب لترك الإحرام بالحج من الميقات ، وهذا لم يترك الإحرام بالحج من الميقات ، فإنه إن أقام سعيد بن المسيب بمكة صارت مكة ميقاته ، وإن رجع إلى بلده ، وعاد فقد أحرم من الميقات . وقال النووي في " الأثر المذكور " : المروي عن حسن ، رواه ابن المسيب البيهقي بإسناد حسن ، ولا يخفى سقوط قول الحسن : إنه متمتع وإن لم يحج من عامه .
الشرط الثالث : أن لا يعود إلى بلده ، أو ما يماثله في المسافة . وقال بعضهم : يكفي في هذا الشرط أن يرجع إلى ميقاته فيحرم بالحج منه ، وبعضهم يكتفي بمسافة القصر بعد العمرة ، ثم يحرم للحج من مسافة القصر .
والحاصل : أن الأئمة الأربعة متفقون على أن من منتهى ذلك السفر مسقط لدم التمتع ، إلا أنهم مختلفون في قدر المسافة ، فمنهم من يقول : لا بد أن يرجع بعد العمرة في أشهر الحج إلى المحل الذي جاء منه ، ثم ينشئ سفرا للحج ويحرم من الميقات . وبعضهم يقول : يكفيه أن يرجع إلى بلده أو يسافر مسافة [ ص: 124 ] مساوية لمسافة بلده ، وبعضهم يكفي عنده سفر مسافة القصر ، وبعضهم يقول : يكفيه أن يرجع لإحرام الحج إلى ميقاته ، وقد قدمنا أقوالهم مفصلة ، ودليلهم في ذلك ما فهموه من قوله تعالى : السفر بعد العمرة ، والإحرام بالحج ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [ 2 \ 196 ] قالوا : لا فرق بين حاضري المسجد الحرام ، وبين غيرهم ، إلا أن غيرهم ترفهوا بإسقاط أحد السفرين الذي هو السفر للحج ، بعد السفر للعمرة ، وإن سافر للحج بعد العمرة زال السبب ، فسقط الدم بزواله ، وعضدوا ذلك بآثار رووها ، عن عمر وابنه - رضي الله عنهما - وقد قدمنا قولي العلماء في الشيء الذي ترجع إليه الإشارة في قوله : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [ 2 \ 196 ] وناقشنا أدلتهما ، وبينا أنه على القول الذي يراه - رحمه الله - ومن وافقه : أن الإشارة راجعة إلى نفس التمتع وأن أهل البخاري مكة لا متعة لهم أصلا ، فلا دليل في الآية على أقوال الأئمة التي ذكرنا ، وعلى القول الآخر أن الإشارة راجعة إلى حكم التمتع ، وهو لزوم ما استيسر من الهدي والصوم عند العجز عنه ، لا نفس التمتع ، فاستدلال الأئمة بها على الأقوال المذكورة له وجه من النظر كما ترى .
والحاصل أن استدلالهم بها إنما يصح على أحد التفسيرين في مرجع الإشارة في الآية ، وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفى .
والأحوط عندي : إراقة دم التمتع ، ولو سافر ؛ لعدم صراحة دلالة الآية في إسقاطه ، وللاحتمال الآخر الذي تمسك به والحنفية ، كما تقدم إيضاحه . وممن قال بذلك البخاري الحسن ، واختاره ابن المنذر لعموم الآية ، قاله في " المغني " . والعلم عند الله تعالى .
الشرط الرابع : المسجد الحرام ، فأما إذا كان من حاضري أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه ; لقوله تعالى : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام .
وأظهر أقوال أهل العلم عندي في المراد بحاضري المسجد الحرام : أنهم أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة ; لأن المسجد الحرام ، قد يطلق كثيرا ويراد به الحرم كله . ومن على مسافة دون مسافة القصر ، فهو كالحاضر ، ولذا تسمى صلاته إن سافر من الحرم ، إلى تلك المسافة صلاة حاضر ، فلا يقصرها ، لا صلاة مسافر ، حتى يشرع له قصرها فظهر دخوله في اسم حاضري المسجد الحرام ، بناء على أن المراد به جميع الحرم ، وهو الأظهر خلافا لمن خصه بمكة ، ومن خصه بالحرم ، ومن عممه في كل ما دون الميقات ، [ ص: 125 ] وقد علمت أن هذا الشرط إنما يتمشى على أحد القولين في الآية .
الشرط الخامس : ما قال به بعض أهل العلم : من أنه . قال : لأنه جمع بين عبادتين في وقت إحداهما ، فافتقر إلى نية الجمع كالجمع بين الصلاتين ، وعلى الاشتراط المذكور فمحل نية التمتع هو وقت الإحرام بالعمرة . يشترط نية التمتع بالحج إلى العمرة عند الإحرام بالعمرة
وقال بعضهم : له نية التمتع ، ما لم يفرغ من أعمال العمرة كالخلاف في وقت نية الجمع بين الصلاتين فقال بعضهم : ينوي عند ابتداء الأولى منهما ، وقال بعضهم : له نيته ما لم يفرغ من الصلاة الأولى ، هكذا قاله بعض أهل العلم ، وعليه فلو ، فلا دم تمتع عليه ، واشتراط النية المذكور عزاه صاحب " الإنصاف " للقاضي ، وأكثر الحنابلة ، وحكى عدم الاشتراط بـ " قيل " ثم قال : واختاره " المصنف " ، و " الشارح " ، وقدمه في " المحرر والفائق " ، والظاهر سقوط هذا الشرط ، وأنه متى حج بعد أن اعتمر في أشهر الحج من تلك السنة فعليه الهدي ، لظاهر عموم الآية الكريمة ، فتخصيصه بالنية تخصيص للقرآن ، بل دليل يجب الرجوع إليه : ويؤيده أنهم يقولون : إن سبب وجوب الدم : أنه ترفه بإسقاط سفر الحج ، وتلك العلة موجودة في هذه الصورة ، والعلم عند الله تعالى . اعتمر في أشهر الحج ، وهو لا ينوي الحج في تلك السنة ، ثم بعد الفراغ من العمرة بدا له أن يحج في تلك السنة
الشرط السادس : هو ما اشترطه بعض أهل العلم من كون الحج والعمرة المذكورين عن شخص واحد ، كأن يعتمر بنفسه ويحج بنفسه ، وكل ذلك عن نفسه لا عن غيره أو يحج شخص ، ويعتمر عن شخص واحد . أما إذا نظرا إلى أن مؤدي النسكين شخص واحد أو لا يلزم نظرا إلى أن الحج وقع عن شخص والعمرة وقعت عن شخص آخر فهو كما لو فعله شخصان فحج أحدهما ، واعتمر الآخر ، وإذا فلا تمتع على أحدهما ، وكلاهما له وجه من النظر ، ومذهب حج عن شخص ، واعتمر عن شخص آخر ، أو اعتمر عن شخص ، وحج عن نفسه ، أو اعتمر عن نفسه ، وحج عن شخص آخر ، فهل يلزم دم التمتع الذي عليه جمهور الشافعي الشافعية : هو عدم اشتراط هذا الشرط نظرا إلى اتحاد فاعل النسك ، ومقابله المرجوح عدم وجوب الدم نظرا إلى أن الحج عن شخص ، والعمرة عن آخر ، ومذهب مالك في هذا قريب من مذهب في وجود الخلاف وترجيح عدم الاشتراط . الشافعي
قال الشيخ المواق في شرح قول خليل في مختصره ، في عدة شروط وجوب دم التمتع ، وفي شرط كونهما عن واحد تردد ، ما نصه : ذكر من الشروط التي يكون [ ص: 126 ] بها متمتعا : أن يقع النسكان عن شخص واحد : ابن شاس لا أعرف هذا ، بل في كتاب ابن عرفة محمد من اعتمر عن نفسه ، ثم حج من عامه عن غيره فتمتع . وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل المذكور ما نصه : أشار بالتردد لتردد المتأخرين في النقل ، فالذي نقله صاحب النوادر وابن يونس واللخمي عدم اشتراط ذلك . وقال : الأشهر اشتراط كونهما عن واحد ، وحكى ابن الحاجب في ذلك قولين قال في " التوضيح " : لم يعزهما ولم يعين المشهور منهما ، ولم يحك صاحب النوادر ابن شاس وابن يونس ، إلا ما وقع في الموازية أنه تمتع . انتهى . وقال في مناسكه بعد أن ذكر كلام ابن الحاجب خليل : ولم أر في ابن يونس وغيره ، إلا القول بوجوب الدم .
وقال : وشرط ابن عرفة ابن شاش كونهما عن واحد ، ونقل ابن حاجب : لا أعرفه ، بل في كتاب محمد من اعتمر عن نفسه ، ثم حج من عامه عن غيره متمتع فما ذكره المصنف من التردد صحيح . لكن المعروف عدم اشتراط ذلك وعادته أن يشير بالتردد لما ليس فيه ترجيح .
وقال ابن جماعة في منسكه الكبير : لا يشترط أن يقع النسكان عن واحد عند جمهور الشافعي الشافعية ، وهو قول الحنفية ورواية ، عن ابن المواز مالك ، وعلى ذلك جرى جماعة من أئمة المالكية منهم الباجي ، والطرطوشي ، ومن الشافعية من شرط ذلك . وقال : إنه الأشهر من مذهب ابن الحاجب مالك ، وتبع في اشتراط ذلك صاحب الجواهر ، وقوله : إنه الأشهر غير ابن الحاجب مسلم ، فإن القرافي في الذخيرة ذكر ما سوى هذا الشرط ، وقال : إن صاحب الجواهر زاد هذا الشرط ، ولم يعزه لغيره . انتهى كلام الحطاب ، والظاهر من النقول التي نقلها أن عدم اشتراط كون النسكين عن واحد : هو المعروف في مذهب مالك ، وهو كذلك ، ومذهب أحمد قريب من مذهب مالك ، ففيه خلاف أيضا ، هل يشترط كون النسكين عن واحد أو لا يشترط ؟ وعدم اشتراطه عليه الأكثر من الحنابلة ، وعزاه في " الإنصاف " لبعض الأصحاب ، قال منهم المنصف ، والشافعي والمجد ، قاله : الزركشي ، واقتصر عليه في الفروع ، وعزا مقابله لصاحب " التلخيص " ، وقد قدمنا في كلام ابن جماعة أن عدم اشتراط كون النسكين ، عن شخص واحد هو مذهب الحنفية أيضا ، فظهر أن المشهور في المذاهب الأربعة عدم اشتراط هذا الشرط ، وقول من اشترطه له وجه من النظر . والعلم عند الله تعالى . الشافعي
الشرط السابع : ، فإن أحرم قبل حله منها صار [ ص: 127 ] قارنا ، كما وقع أن يحل من العمرة قبل إحرامه بالحج لعائشة - رضي الله عنها - في حجة الوداع على التحقيق كما تقدم إيضاحه .