وإذا عرفت أقوال أهل العلم في وقت ذبح دم التمتع والقران ، فدونك أدلتهم ، ومناقشتها ، وبيان الحق الذي يعضده الدليل منها .
اعلم أن من قال بجوازه قبل يوم النحر : كالشافعية ، وأبي الخطاب من الحنابلة ، ورواية ضعيفة عن أحمد : إن جاء به صاحبه قبل عشر ذي الحجة فقد احتجوا ، واحتج لهم بأشياء . أما رواية أبي طالب عن أحمد : بجواز تقديم ذبحه ، إن قدم به صاحبه ، قبل العشر ، فقد ذكرنا تضعيف صاحب " الفروع " لها ، وبينا أنها لا مستند لها ; لأن مستندها مصلحة مرسلة مخالفة لسنة ثابتة .
وأما قول أبي الخطاب : إنه يجوز بإحرام العمرة ، فلا مستند له من كتاب ولا سنة ولا قياس . والظاهر : أنه يرى أن ، وهما العمرة والحج في تلك السنة ، فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة فجاز الإتيان بالمسبب ، كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان ; لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان كفى في وجوب الصوم ، وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى ، ولم تنتف الموانع ; لأن قضاء الصوم فرع عن وجوب سابق في الجملة ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع . ولا يخفى سقوط هذا ، كما ترى . وأما الشافعية : فقد ذكروا لمذهبهم أدلة . هدي التمتع له سببان
منها أن هدي التمتع حق مالي ، يجب بسببين : هما الحج ، والعمرة .
فجاز تقديمه على أحدهما قياسا على الزكاة بعد ملك النصاب ، وقبل حلول الحلول .
ومنها فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي قالوا : قوله : قوله تعالى : فما استيسر من الهدي ، أي عليه ما استيسر من الهدي ، وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا ، فوجب حينئذ ; لأنه معلق على التمتع : وقد وجد . قالوا : ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله ; كقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ 2 \ 187 ] ، فالصيام ينتهي بأول جزء من الليل ، فكذلك التمتع ، يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام .
ومنها أن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج ، فوجد التمتع ، وذبح الهدي معلق على التمتع ، وإذا حصل المعلق عليه حصل المعلق .
[ ص: 142 ] ومنها أن الصوم الذي هو بدل الهدي عند العجز عنه ، يجوز تقديم بعضه على يوم النحر ، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله : فصيام ثلاثة أيام في الحج الآية [ 2 \ 196 ] ، وتقديم البدل يدل على تقديم المبدل منه .
ومنها أنه دم جبران ، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر كدم فدية الطيب واللباس .
ومنها ظواهر بعض الأحاديث التي قد يفهم منها الذبح قبل يوم النحر ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه في باب الاشتراك في الهدي .
وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا محمد بن بكر ، أخبرنا ، أخبرنا ابن جريج أبو الزبير : أنه يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ، ويجتمع النفر منا في الهدية جابر بن عبد الله " ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث . انتهى بلفظه من صحيح سمع مسلم . وقال النووي في شرحه لهذا الحديث : وفيه دليل لجواز . وفي المسألة خلاف ، وتفصيل . . . إلى آخر كلام ذبح هدي التمتع ، بعد التحلل من العمرة ، وقبل الإحرام بالحج النووي .
ومن ذلك أيضا ما رواه الحاكم في " المستدرك " : أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم ، ثنا ، ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب يحيى بن أيوب ، ثنا ، ثنا أبي ، عن وهب بن جرير محمد بن إسحاق ، ثنا ، عن ابن أبي نجيح مجاهد ، وعطاء ، عن ، قال : كثرت القالة من الناس ، فخرجنا حجاجا ، حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل ، أمرنا بالإحلال . . . الحديث . جابر بن عبد الله
وفيه : قال عطاء : قال - رضي الله عنهما - : " ابن عباس تيس فذبحه عن نفسه ، فلما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن أبي وقاص بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : اصرخ ، أيها الناس هل تدرون أي شهر هذا " ، إلى آخر الحديث ، ثم قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، وفيه ألفاظ من ألفاظ حديث ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد الصادق جابر أيضا ، وفيه أيضا زيادة ألفاظ كثيرة اهـ .
وأقره على تصحيح الحديث المذكور ، وقوله في هذا الحديث : " فأصاب الحافظ الذهبي تيس فذبحه عن نفسه فلما وقف سعد بن أبي وقاص بعرفة " إلخ . قد يتوهم منه ، أن ذبح سعد لتيسه كان قبل الوقوف بعرفة .
[ ص: 143 ] هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بجواز ، وغيره مما زعموه أدلة تركناه لوضوح سقوطه ، ولأنه لا يحتاج في سقوطه إلى دليل . ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر
وأما الجمهور القائلون : بأنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران قبل يوم النحر فاستدلوا بأدلة واضحة ، وأحاديث كثيرة صحيحة صريحة ، في أن أول وقت نحر الهدي : هو يوم النحر ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قارنا كما قدمنا ، ما يدل على الجزم بذلك ، سواء قلنا : إذا بدأ إحرامه قارنا ، أو أدخل العمرة على الحج ، وأن ذلك خاص به كما تقدم . وكانت أزواجه كلهن متمتعات كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة ، إلا عائشة فإنها كانت قارنة على التحقيق كما قدمنا إيضاحه بالأدلة الصحيحة الصريحة ، ولم ينحر عن نفسه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أحد من أزواجه ، إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة ، وكذلك كل من كان معه من المتمتعين ، وهم أكثر أصحابه والقارنين الذين ساقوا الهدي ، لم ينحر أحد منهم ألبتة ، قبل يوم النحر ، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين ، والمهاجرين ، والأنصار ، وعامة المسلمين فلم يثبت عن أحد من الصحابة ، ولا من الخلفاء : أنه نحر هدي تمتعه ، أو قرانه قبل يوم النحر ألبتة .