قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله أعلم : أنه لا يجوز لأدلة متعددة ، أوضحناها غاية الإيضاح قريبا . ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر
منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل فلم يذبح عن أزواجه المتمتعات ولا عن عائشة القارنة إلا يوم النحر ، وكذلك فعل هو وجميع أصحابه المتمتعين بأمره ، واستمر على ذلك عمل الأمة ، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة . وقد أمرنا أن نأخذ عنه مناسكنا ، ومن مناسكنا وقت ذبح الهدايا ، ولا شك أن القرآن العظيم دل على أن كل هدي له تعلق بالحج أن ذبحه في أيام معلومات ، لا في أيام مجهولات كما أوضحناه مرارا ; لأنه تعالى [ ص: 156 ] قال : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 27 - 28 ] ; لأن مضمون الآية الكريمة : أذن فيهم بالحج يأتوك حجاجا مشاة وركبانا ; لأجل أن يشهدوا منافع لهم ، ولأجل أن يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام : أي وليتقربوا إلى الله بدماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، ذاكرين اسم الله عليها عند التذكية .
فقد صرح بأن ذلك التقرب بدماء الأنعام الذي هو من جملة ما دعوا إلى الحج من أجله ، أنه في أيام معلومات لا في زمن مطلق مجهول كما ترى .
وقد بينا الأيام المعلومات في أول هذا البحث ، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أول وقتها ، فذكر اسم الله على ما رزقه من بهيمة الأنعام وقت تذكيتها يوم النحر ، ويوضح أن ذكر اسم الله عليها إنما هو عند تذكيتها تقربا لله تعالى بدمائها ، قوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف أي ذكوها قائمة صواف على ثلاثة أرجل كما هو معلوم .
ولا شك أن الله جل وعلا في محكم كتابه بين أن إياه ، وذلك في قوله : الهدي له محل معروف لا يجوز التحلل بحلق الرأس ، قبل بلوغه ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن فيها : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر من لم يسق هديا من أصحابه بفسخ حجه في عمرة ، والإحلال من العمرة ، وتأسف هو - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يفعل ذلك ، وقال : " " . لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة
ولا شك أن المانع له من فسخ الحج في العمرة أنه لا يمكنه التحلل ، وحلق الرأس ، حتى يبلغ الهدي محله .
ومن الضروري البديهي أن هدي التمتع لو كان يجوز ذبحه عند الإحلال من العمرة ، أو الإحرام بالحج أنه - صلى الله عليه وسلم - يتحلل بعمرة ، ويذبح هديه عندما تحلل منها ، فيكون متمتعا ذابحا عند الفراغ من العمرة ، أو عند الإحرام بالحج ، فلما صرح بامتناع هذا وعلله بأنه قلد هديه ، وعلم أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر كما هو واضح .
وقد أوضحنا أن جميع أفعاله في الحج - ويدخل فيها الذبح ووقته - كلها بيان لإجمال آيات القرآن كقوله : حتى يبلغ الهدي محله ، وقوله : [ ص: 157 ] ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، كما أنه بيان لقوله : ولله على الناس حج البيت الآية [ 3 \ 97 ] . ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - مبينا أن أفعاله في الحج ، بيان للقرآن : " " ، وقد قدمنا اتفاق الأصوليين ، على أن فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو بيان لإجمال نص يقتضي الوجوب : أنه واجب إلى آخر ما قدمناه من الأدلة . لتأخذوا عني مناسككم
وقد علمت مما ذكرنا أن القائلين بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج ، أو بعد الفراغ من العمرة كالشافعية وأبي الخطاب من الحنابلة ، ليس معهم حجة واضحة من كتاب الله ، ولا من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا فعل أحد من الصحابة وأن تمسكهم بآية : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ، وبعض الأحاديث ليس في شيء منه حجة ناهضة يجب الرجوع إليها ، هذا ما ظهر لنا في هذه المسألة ، والعلم عند الله تعالى .