اعلم أن . أما النساء : فليس عليهن حلق وإنما عليهن التقصير . محل كون الحلق أفضل من التقصير ، إنما هو بالنسبة إلى الرجال خاصة
والصواب عندنا : وجوب تقصير المرأة جميع رأسها ويكفيها قدر الأنملة ; لأنه يصدق عليه أنه تقصير من غير منافاة لظواهر النصوص ، ولأن شعر المرأة من جمالها ، وحلقه مثلة وتقصيره جدا إلى قرب أصول الشعر نقص في جمالها ، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن . النساء لا حلق عليهن ، وإنما عليهن التقصير
قال أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن الحسن العتكي ، ثنا محمد بن بكر ، ثنا ، قال : بلغني عن ابن جريج ، قالت : أخبرتني صفية بنت شيبة بن عثمان أم عثمان بنت أبي سفيان أن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ابن عباس " . ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير
حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة ، ثنا ، عن هشام بن يوسف ، عن ابن جريج عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن ، قالت : أخبرتني صفية بنت شيبة أم عثمان بنت أبي سفيان أن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ابن عباس " انتهى منه . ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير
وقال النووي في " شرح المهذب " ، في حديث هذا : رواه ابن عباس أبو داود بإسناد [ ص: 185 ] حسن . وقال صاحب " نصب الراية " في حديث المذكور : قال ابن عباس في كتابه : هذا ضعيف ومنقطع . ابن القطان
أما الأول : فانقطاعه من جهة ، قال : بلغني عن ابن جريج صفية ، فلم يعلم من حدثه به .
وأما الثاني : فقول أبي داود : حدثنا رجل ثقة ، يكنى أبا يعقوب ، وهذا غير كاف . وإن قيل : إنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل ، فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه . وأما ضعفه : فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها . انتهى محل الغرض من " نصب الراية " للزيلعي .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : حديث المذكور : في أن على النساء التقصير لا الحلق ، أقل درجاته الحسن . فقول ابن عباس النووي : إنه حديث رواه أبو داود بإسناد حسن أصوب مما نقله الزيلعي عن في كتابه ، وسكت عليه من أن الحديث المذكور ضعيف ومنقطع ، فقول ابن القطان : وأما ضعفه فإن ابن القطان أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها فيه قصور ظاهر جدا ; لأن أم عثمان المذكورة من الصحابيات المبايعات ، وقد روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن فدعوى أنها لا يعرف حالها ظاهرة السقوط كما ترى . وقال ابن عباس في الاستيعاب : ابن عبد البر أم عثمان بنت سفيان القرشية الشيبية العبدرية ، أم بني شيبة الأكابر ، كانت من المبايعات . روت عنها ، وروى صفية بنت شيبة عبد الله بن مسافع عن أمه عنها . انتهى منه .
وقال ابن حجر في " الإصابة " : أم عثمان بنت سفيان ، والدة بني شيبة الأكابر ، وكانت من المبايعات . قاله أبو عمر إلى آخر كلامه ، وقد أورد فيه حديثا روته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في السعي بين الصفا والمروة ، وقد قدمناه .
وقال ابن حجر في " الإصابة " ، عن أبي نعيم : حديثا أخرجه ، وفيه أن أم عثمان بنت سفيان هي أم بني شيبة الأكابر ، وقد بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ .
وقال ابن حجر في " تهذيب التهذيب " : أم عثمان بنت سفيان . ويقال : بنت أبي سفيان : هي أم ولد . روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن شيبة بن عثمان . وروت عنها ابن عباس اهـ . صفية بنت شيبة
ومعلوم أن الصحابة كلهم عدول بتزكية الكتاب والسنة لهم ، كما أوضحناه في غير [ ص: 186 ] هذا الموضع ، فتبين أن قول : إن الحديث ضعيف ; لأنها لم يعلم حالها قصور منه - رحمه الله - كما ترى . وأما قوله : إن توثيق ابن القطان أبي داود لأبي يعقوب غير كاف ، وأن أبا يعقوب المذكور ، إن قيل : إنه إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه .
فجوابه أن أبا يعقوب المذكور هو إسحاق بن إبراهيم واسم إبراهيم أبو إسرائيل ، وقد وثقه أبو داود وأثنى عليه غير واحد من أجلاء العلماء بالرجال . وقال فيه الذهبي في " الميزان " : حافظ شهير . قال : ووثقه ، يحيى بن معين : وقال والدارقطني صدوق ، إلا أنه كان يقف في القرآن ، ولا يقول : غير مخلوق ، بل يقول : كلام الله . وقال فيه أيضا : قال صالح جزرة عبدوس النيسابوري : كان حافظا جدا لم يكن مثله أحد في الحفظ والورع واتهم بالوقف . وقال فيه ابن حجر في " تهذيب التهذيب " ، قال : ثقة . وقال أيضا : من ثقات المسلمين ، ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس ، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه . وقال أيضا : ثقة مأمون أثبت من ابن معين القواريري وأكيس ، والقواريري ثقة صدوق ، وليس هو مثل إسحاق ، وذكر غير هذا من ثناء عليه ، وتفضيله على بعض الثقات المعروفين ، ثم قال : وقال ابن معين : ثقة . وقال الدارقطني البغوي : كان ثقة مأمونا ، إلا أنه كان قليل العقل ، وثناء أئمة الرجال عليه في الحفظ ، والعدالة كثير مشهور وإنما نقموا عليه أنه كان يقول : القرآن كلام الله ، ويسكت عندها ولا يقول : غير مخلوق ، ومن هنا جعلوه واقفيا ، وتكلموا في حديثه ، كما قال فيه : صدوق في الحديث إلا أنه يقول : القرآن كلام الله ويقف . صالح جزرة
وقال الساجي : تركوه لموضع الوقف ، وكان صدوقا . وقال أحمد : واقفي مشئوم ، إلا أنه كان صاحب حديث كيسا . إسحاق بن أبي إسرائيل
وقال السراج : سمعته يقول : هؤلاء الصبيان يقولون : كلام الله غير مخلوق ، ألا قالوا كلام الله وسكتوا . وقال : سألت عثمان بن سعيد الدارمي فقال : ثقة . قال يحيى بن معين عثمان : لم يكن أظهر الوقف حين سألت يحيى عنه ويوم كتبنا عنه كان مستورا ، وقال عبدوس النيسابوري : كان حافظا جدا ، ولم يكن مثله في الحفظ والورع ، وكان لقي المشايخ فقيل : كان يتهم بالوقف قال : نعم اتهم وليس بمتهم . وقال : ناظرته فقال : لم أقل على الشك ، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي . مصعب الزبيري
والحاصل : أنهم متفقون على ثقته ، وأمانته بالنسبة إلى الحديث ، إلا أنهم كانوا [ ص: 187 ] يتهمونه بالوقف ، وقد رأيت قول من نفى عنه التهمة ، وقول من ناظره أنه قال له : لم أقل على الشك . ولكني سكت كما سكت القوم قبلي ، ومعنى كلامه : أنه لا يشك في أن القرآن غير مخلوق ، ولكنه يقتدي بمن لم يخض في ذلك ، ولما حكى الذهبي في الميزان قول الساجي : إنهم تركوا الأخذ عنه لمكان الوقف ، قال بعده ما نصه : قلت : قل من ترك الأخذ عنه اهـ ، وهو تصريح منه
بأن الأكثرين على قبوله ، فحديثه لا يقل عن درجة الحسن ، وروايته عند أبي داود الذي وثقه تعتضد بالرواية المذكورة قبلها ، وقول فيها : " بلغني عن ابن جريج " تفسره الرواية الثانية التي بين فيها صفية بنت شيبة أن من بلغه عن ابن جريج صفية المذكورة : هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة ، وهو ثقة معروف .
فإن قيل : روى عنه بالعنعنة ، وهو مدلس ، والرواية بالعنعنة لا تقبل من المدلس بل لا بد من تصريحه ، بما يدل على السماع . ابن جريج
والجواب : أنا قدمنا أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد هو ، ومن يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى كما نبه عليه غير واحد من الأصوليين . الاحتجاج بالمرسل
وقد قدمنا موضحا مرارا في هذا الكتاب المبارك مع اعتضاد هذه الرواية بالأخرى واعتضادها بغيرها .
قال الزيلعي في " نصب الراية " : بعد ذكره كلام في تضعيف حديث ابن القطان المذكور في تقصير النساء ، وعدم حلقهن الذي ناقشنا تضعيفه له كما رأيت ما نصه : وأخرجه ابن عباس في سننه الدارقطني في معجمه ، عن والطبراني ، عن أبي بكر بن عياش يعقوب بن عطاء ، عن به ، وأخرجه صفية بنت شيبة أيضا ، الدارقطني في مسنده ، عن والبزار ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج عبد الحميد بن جبير ، عن صفية به . وقال البزار : لا نعلمه يروى عن ، إلا من هذا الوجه انتهى ، وأخرجه ابن عباس في سننه ، عن الدارقطني ليث ، عن نافع ، عن قال في المحرمة : تأخذ من شعرها قدر السبابة . انتهى ، وليث هذا الظاهر أنه ابن عمر ابن أبي سليم ، وهو ضعيف . انتهى من " نصب الراية " .
فتبين من جميع ما ذكر أن حديث في أن على النساء المحرمات إذا أردن قضاء التفث التقصير ، لا الحلق أنه لا يقل عن درجة الحسن ، كما جزم ابن عباس النووي بأن إسناده عند أبي داود حسن ، وقد رأيت اعتضاده بما ذكرنا من الروايات المتابعة له بواسطة نقل [ ص: 188 ] الزيلعي ، عند ، الطبراني ، والدارقطني ويعتضد عدم حلق النساء رءوسهن بخمسة أمور غير ما ذكرنا . والبزار
الأول : الإجماع على عدم حلقهن في الحج ، ولو كان الحلق يجوز لهن لشرع في الحج .
الثاني : أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق .
الثالث : أنه ليس من عملنا ، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .
الرابع : أنه تشبه بالرجال ، وهو حرام .
الخامس : أنه مثلة والمثلة لا تجوز .
أما الإجماع ، فقد قال النووي في " شرح المهذب " ، قال ابن المنذر : أجمعوا على ألا حلق على النساء ، وإنما عليهن التقصير ، ويكره لهن الحلق ; لأنه بدعة في حقهن ، وفيه مثلة .
واختلفوا في قدر ما تقصره ، فقال ، ابن عمر ، والشافعي وأحمد ، وإسحاق ، : تقصر من كل قرن مثل الأنملة ، وقال قتادة : تقصر الثلث أو الربع ، وقالت وأبو ثور : إن كانت عجوزا من القواعد أخذت نحو الربع ، وإن كانت شابة فلتقلل ، وقال حفصة بنت سيرين مالك : تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ، ولا يجوز من بعض القرون . انتهى محل الغرض منه ، وتراه نقل عن ابن المنذر الإجماع على أن النساء : لا حلق عليهن في الحج ، ولو كان الحلق يجوز لهن لأمرن به في الحج ; لأن الحلق نسك على التحقيق ، كما تقدم إيضاحه .
وأما الأحاديث الواردة في ذلك فسأنقلها بواسطة نقل الزيلعي ، في " نصب الراية " ; لأنه جمعها فيه في محل واحد قال : فنهي النساء عن الحلق فيه أحاديث .
منها : ما رواه الترمذي في الحج ، في الزينة ، قالا : حدثنا والنسائي محمد بن موسى الحرشي ، عن ، عن أبي داود الطيالسي همام ، عن قتادة ، عن ، عن خلاس بن عمرو علي قال : " " ، انتهى . ثم رواه نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن تحلق المرأة رأسها الترمذي ، عن ، عن محمد بن بشار به ، عن أبي داود الطيالسي خلاس عن النبي مرسلا ، وقال : هذا حديث فيه اضطراب ، وقد روي عن عن حماد بن سلمة قتادة ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا انتهى ، وقال عبد الحق في أحكامه : هذا حديث يرويه همام عن يحيى ، عن قتادة ، عن ، عن خلاس بن عمرو علي ، وخالفه ، هشام الدستوائي فروياه عن وحماد بن سلمة قتادة ، عن النبي مرسلا .
[ ص: 189 ] حديث آخر أخرجه البزار في مسنده عن معلى بن عبد الرحمن الواسطي : ثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن ، عن أبيه ، عن هشام بن عروة عائشة - رضي الله عنها - : " " ، انتهى . قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها البزار : ومعلى بن عبد الرحمن الواسطي روى عن عبد الحميد أحاديث ، لم يتابع عليها ، ولا نعلم أحدا تابعه على هذا الحديث . انتهى ، ورواه في الكامل ، وقال : أرجو أنه لا بأس به ، قال ابن عدي عبد الحق : وضعفه أبو حاتم وقال : إنه متروك الحديث انتهى . وقال في كتاب " الضعفاء " : يروي عن ابن حبان عبد الحميد بن جعفر المقلوبات ، لا يجوز الاحتجاج به ، إذا تفرد حديث آخر ، رواه البزار في مسنده أيضا .
حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي ، ثنا روح بن عطاء بن أبي ميمونة ، ثنا أبي ، عن وهب بن عمير قال : سمعت عثمان يقول : " " انتهى . قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها البزار : ووهب بن عمير لا نعلمه روى غير هذا الحديث ، ولا نعلم روى عنه إلا ، عطاء بن أبي ميمونة وروح ليس بالقوي . انتهى كلام الزيلعي في " نصب الراية " .
وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها ، عن علي ، وعثمان ، وعائشة : يعضد بعضها بعضا كما تعتضد بما تقدم ، وبما سيأتي إن شاء الله ، وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة ، فمن بعدهم ، فهو أمر معروف ، لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر ، فالقائل : بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف ، وفي الحديث الصحيح : " " ، فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك ، وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك ، فغيره من الأحوال أولى ، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبها بالرجال ، فهو واضح ، ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال ; لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة . وقد قدمنا الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وأما كون حلق رأس المرأة مثلة ، فواضح ; لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها ، كما يدركه الحس السليم ، وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم ، وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام ، وسنذكر هنا منه أمثلة قليلة تنبيها بها على غيرها قال امرؤ القيس في معلقته : [ ص: 190 ]
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل غدائره مستشزرات إلى العلى
تضل المداري في مثنى ومرسل
غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
وقال : عمر بن أبي ربيعة
تقول يا أمتا كفي جوانبه ويلي بليت وأبلى جيدي الشعر
مثل الأساود قد أعيا مواشطه تضل فيه مداريها وتنكسر
وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليث قنوان الكروم الدوالح
لأن قوله : يصير الجيد أي يميل العنق لكثرته ، وقد بالغ من قال : بيضاء تسحب من قيام فرعها وتغيب فيه وهو وجف أسحم فكأنها فيه نهار ساطع وكأنه ليل عليها مظلم وأمثال هذا أكثر من أن تنحصر ، وقصدنا مطلق التمثيل ، وهو يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها ، وتشويه لها ، فهو مثلة وبه تعلم أن العرف الذي صار جاريا في كثير من البلاد ، بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة أفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام ، فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق ، والسمت وغير ذلك .
فإن قيل : جاء عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على حلق المرأة رأسها ، وتقصيرها إياه ، فما دل على الحلق ، فهو ما رواه في صحيحه في النوع الحادي عشر من القسم الخامس ، من حديث ابن حبان : ثنا أبي ، سمعت وهب بن جرير أبا فزارة ، يحدث عن عن يزيد بن الأصم ، ميمونة : " فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت [ ص: 191 ] ردائي فوضعته تحت رأسها فاجتذبه وابن عباس فألقاه وكانت قد حلقت رأسها في الحج فكان رأسها محجما ابن عباس " . انتهى بواسطة نقل صاحب " نصب الراية " . فهذا الحديث يدل على أن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالا وبنى بها وماتت بسرف ، فدفنها في الظلة التي بنى بها فيها ، فنزلنا قبرها أنا ميمونة حلقت رأسها ، ولو كان حراما ما فعلته ، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه .
وحدثني قال : حدثنا أبي قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري شعبة ، عن أبي بكر بن حفص ، عن قال : أبي سلمة بن عبد الرحمن عائشة أنا وأخوها من الرضاع ، فسألها عن غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة فدعت بإناء قدر الصاع ، فاغتسلت ، وبيننا وبينها ستر ، وأفرغت على رأسها ثلاثا . قال : وكان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة . اهـ من " صحيح دخلت على مسلم " .
فالجواب عن حديث ميمونة على تقدير صحته أن فيه أن رأسها كان محجما ، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض ، لتتمكن آلة الحجم من الرأس ، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها ، وقد قال تعالى : وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ 6 \ 119 ] .
وأما الجواب : عن حديث مسلم فعلى القول : بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر ، فلا إشكال ; لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولا يحصل به المقصود . قال النووي في " شرح مسلم " : والوفرة أشبع ، وأكثر من اللمة . واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر . قاله : . انتهى محل الغرض من الأصمعي النووي .
وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة : من أنها لا تجاوز الأذنين . قال في القاموس : والوفرة : الشعر المجتمع على الرأس ، أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذن ، ثم الجمة ، ثم اللمة انتهى منه .
وقال الجوهري في صحاحه : والوفرة : الشعر إلى شحمة الأذن ، ثم الجمة ثم اللمة : وهي التي ألمت بالمنكبين . وقال ابن منظور في " اللسان " : والوفرة : الشعر المجتمع على الرأس ، وقيل : ما سال على الأذنين من الشعر . والجمع وفار . قال كثير عزة : كأن وفار القوم تحت رحالها إذا حسرت عنها العمائم عنصل وقيل : الوفرة أعظم من الجمة . قال : وهذا غلط إنما هي وفرة ، ثم جمة ، ثم لمة ، والوفرة : ما جاوز شحمة الأذنين ، واللمة : ما ألم بالمنكبين . التهذيب ، والوفرة : [ ص: 192 ] الجمة من الشعر إذا بلغت الأذنين ، وقيل : الوفرة الشعرة إلى شحمة الأذن ، ثم الجمة ، ثم اللمة ، إلى أن قال : والوفرة شعر الرأس ، إذا وصل شحمة الأذن . انتهى من " اللسان " . ابن سيده
فالجواب أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصرن رءوسهن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ; لأنهن كن يتجملن له في حياته ، ومن أجمل زينتهن شعرهن . أما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض ، وهو انقطاع أملهن انقطاعا كليا من التزويج ، ويأسهن منه اليأس الذي لا يمكن أن يخالطه طمع ، فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه - صلى الله عليه وسلم - إلى الموت . قال تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [ 33 \ 53 ] ، واليأس من الرجال بالكلية ، قد يكون سببا للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة ، لا تحل لغير ذلك السبب . وقال النووي في " شرح مسلم " ، في الكلام على هذا الحديث : قال عياض - رحمه الله تعالى - : والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون ، والذوائب ، ولعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلن هذا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لتركهن التزين ، واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفا لمؤنة رءوسهن ، وهذا الذي ذكره من كونهن فعلنه ، بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، لا في حياته . كذا قاله أيضا غيره ، وهو متعين ولا يظن بهن فعله في حياته - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه دليل على جواز القاضي عياض . انتهى كلام تخفيف الشعور للنساء النووي . وقوله : وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء ، فيه عندي نظر لما قدمنا من أن أزواج النبي بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لا يقاس عليهن غيرهن ; لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاص بهن دون غيرهن ، وهو قد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتزين للخطاب ، وربما تزوجت ; لأن كل ساقطة لها لاقطة . وقد يحب بعضهم العجوز كما قال القائل : أبى القلب إلا أم عمرو وحبها عجوزا ومن يحبب عجوزا يفند كثوب اليماني قد تقادم عهده ورقعته ما شئت في العين واليد وقال الآخر : ولو أصبحت ليلى تدب على العصا لكان هوى ليلى جديدا أوائله
والعلم عند الله تعالى .