فروع تتعلق بهذه المسألة
الأول : قد علمت أن أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على أن الأضحية سنة لا واجبة ، والمالكية يقولون : إن وجوبها خاص به صلى الله عليه وسلم ، وقد علمت أن الأحاديث الواردة في ذلك لا تخلو من ضعف ، وقد استثنى مالك وأصحابه به الحاج بمنى ، قالوا : لا تسن له الأضحية ; لأن ما يذبحه هدي لا أضحية ، وخالفهم جماهير أهل العلم نظرا لعموم أدلة الأمر بالأضحية في الحاج وغيره ، ولبعض النصوص المصرحة بمشروعية الأضحية للحاج بمنى . قال في صحيحه : باب الأضحية للمسافر والنساء : حدثنا البخاري مسدد ، حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " بسرف قبل أن تدخل مكة ، وهي تبكي " . الحديث وفيه : " فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه بالبقر " اهـ . وقال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وحاضت مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " " اهـ من صحيح خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " ، الحديث بطوله ، وفيه فقالت : " وضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر مسلم . قالوا : فقد ثبت في الصحيحين ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " بمنى " ، وهو دليل صحيح على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن نسائه ببقر يوم النحر بمنى . مشروعية الأضحية للحاج
[ ص: 206 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين دليلا عندي في هذا الفرع قول مالك وأصحابه ، وإن خالفهم الجمهور ، وأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى ، وأن ما يذبحه هدي لا أضحية ، وأن الاستدلال بحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفا لا تنهض به الحجة على مالك وأصحابه ، ووجه كون مذهب مالك أرجح في نظرنا هنا مما ذهب إليه جمهور أهل العلم ، هو أن القرآن العظيم دال عليه ، ولم يثبت ما يخالف دلالة القرآن عليه سالما من المعارض من كتاب أو سنة ، ووجه دلالة القرآن على أن ما يذبحه الحاج بمنى : هدي لا أضحية ، هو ما قدمناه موضحا ; لأن قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها الآية [ 22 \ 27 - 28 ] ، فيه معنى : وأذن في الناس بالحج يأتوك مشاة وركبانا لحكم منها : شهودهم منافع لهم ، ومنها ذكرهم اسم الله : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، عند ذبحها تقربا إلى الله ، والذي يكون من حكم التأذين فيهم بالحج ، حتى يأتوا مشاة وركبانا ، ويشهدوا المنافع ويتقربوا بالذبح ، إنما هو الهدي خاصة دون الأضحية لإجماع العلماء على أن للمضحي : أن يذبح أضحيته في أي مكان شاءه من أقطار الدنيا ولا يحتاج في التقرب بالأضحية إلى إتيانهم مشاة وركبانا من كل فج عميق . فالآية ظاهرة في الهدي ، دون الأضحية ، وما كان القرآن أظهر فيه وجب تقديمه على غيره ، أما الاحتجاج بحديث عائشة المتفق عليه : " أنه ضحى ببقر عن نسائه يوم النحر صلوات الله وسلامه عليه " ، فلا تنهض به الحجة ; لكثرة الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنهن متمتعات ، وأن ذلك البقر هدي واجب ، وهو هدي التمتع المنصوص عليه في القرآن ، وأن عائشة منهن قارنة والبقرة التي ذبحت عنها هدي قران ، سواء قلنا : إنها استقلت بذبح بقرة عنها وحدها ، كما قدمناه في بعض الروايات الصحيحة ، أو كان بالاشتراك مع غيرها في بقرة ، كما قال به بعضهم ، وأكثر الروايات ليس فيها لفظ : ضحى ، بل فيها : أهدى ، وفيها : ذبح عن نسائه ، وفيها : نحر عن نسائه ، فلفظ ضحى من تصرف بعض الرواة للجزم ، بأن ما ذبح عنهن من البقر يوم النحر بمنى هدي تمتع بالنسبة لغير عائشة ، وهدي قران : بالنسبة إليها ، كما هو معلوم بالأحاديث الصحيحة ، التي لا نزاع فيها ، وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن ظاهر القرآن مع مالك ، والحديث ليس فيه حجة عليه .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " : في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن [ ص: 207 ] بعد ذكره رواية : ضحى المذكورة ، ما نصه : والظاهر أن التصرف من الرواة ; لأنه في الحديث ذكر النحر ، فحمله بعضهم على الأضحية ، فإن رواية صريحة في أن ذلك ، كان عمن اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ : أهدى ، وتبين أنه هدي التمتع ، فليس فيه حجة على أبي هريرة مالك في قوله : لا ضحايا على أهل منى انتهى محل الغرض من " فتح الباري " ، وهو واضح فيما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .