قال الله عز وجل : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا  ، أي فلم يطالبه برهن ، فليؤد الذي اؤتمن أمانته  ، قال : ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول ، لجاز أن يكون قوله عز وجل : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط  الآية [ 4 \ 43 ] ، ناسخا لقوله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة  الآية [ 5 \ 6 ] ، ولجاز أن يكون قوله عز وجل : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين    [ 4 \ 92 ] ، ناسخا لقوله عز وجل : فتحرير رقبة    . 
وقال بعض العلماء إن قوله تعالى : فإن أمن بعضكم بعضا  ، لم يتبين بآخر   [ ص: 187 ] نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد بل وردا معا ، ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة ، قال : وقد روي عن  ابن عباس  أنه لما قيل له إن آية الدين منسوخة قال : لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ ، قال : والإشهاد إنما جعل للطمأنينة ، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا منها الكتاب ، ومنها الرهن ، ومنها الإشهاد ، ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع  بطريق الندب لا بطريق الوجوب ، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد ، وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا ، وبرا وبحرا ، وسهلا وجبلا من غير إشهاد ، مع علم الناس بذلك من غير نكير . ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه ، قلت : هذا كله استدلال حسن وأحسن منه ما جاء في صريح السنة في ترك الإشهاد ، وهو ما أخرجه  الدارقطني  عن طارق بن عبد الله المحاربي    - رضي الله عنه - قال : أقبلنا في ركب من الربذة  وجنوب الربذة  حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا ، فبينما نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه فقال : " من أين القوم ؟ " فقلنا : من الربذة  وجنوب الربذة  ، قال : ومعنا جمل أحمر ، فقال : " تبيعوني جملكم هذا ؟ " فقلنا : نعم ، قال : " بكم ؟ " قلنا : بكذا وكذا صاعا من تمر ، قال : فما استوضعنا شيئا ، وقال : " قد أخذته " ، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة  ، فتوارى عنا فتلاومنا بيننا وقلنا : أعطيتم جملكم من لا تعرفونه ، فقالت الظعينة : لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه ، فلما كان العشاء أتانا رجل ، فقال : السلام عليكم أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا ، وتكتالوا ، حتى تستوفوا قال : فأكلنا حتى شبعنا ، واكتلنا حتى استوفينا   . وذكر الحديث  الزهري  عن عمارة بن خزيمة  أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاع فرسا من أعرابي الحديث وفيه : فطفق الأعرابي يقول : 
هلم شاهدا يشهد أني بعتك ، قال  خزيمة بن ثابت    : أنا أشهد أنك بعته ، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خزيمة  فقال : " بم تشهد ؟ " قال : بتصديقك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة  بشهادة رجلين    . أخرجه  النسائي  وغيره . اهـ من القرطبي  بلفظه . 
قال مقيده عفا الله عنه : وفيما نقلنا الدلالة الواضحة على أن الإشهاد والكتابة مندوب إليهما لا فرضان واجبان كما قاله  ابن جرير  وغيره ، ولم يبين الله تعالى في هذه الآية أعني : قوله جل وعلا : وأشهدوا إذا تبايعتم  ، اشتراط العدالة في الشهود  ،   [ ص: 188 ] ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله : ممن ترضون من الشهداء  ، وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم    [ 65 ] . وقد تقرر في الأصول أن المطلق يحمل على المقيد كما بيناه في غير هذا الموضع . 
				
						
						
