نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر - رضي الله عنه - ، وكان ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب مسطح المذكور من المهاجرين وهو فقير ، وكانت أمه ابنة خالة أبي بكر - رضي الله عنه - وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وقرابته وهجرته ، وكان ممن تكلم في أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بالإفك المذكور في قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم الآية [ 24 \ 11 ] ، وهو ما رموها به من أنها فجرت مع - رضي الله عنه - . صفوان بن المعطل السلمي
[ ص: 486 ] وقصة الإفك معروفة مشهورة ثابتة في عشر آيات من هذه السورة الكريمة ، وفي الأحاديث الصحاح ، فلما نزلت براءة عائشة - رضي الله عنها - في الآيات المذكورة ، حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح ، ولا ينفعه بنافعة بعد ما رمى عائشة بالإفك ظلما وافتراء ، فأنزل الله في ذلك : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله الآية ، وقوله : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أي : لا يحلف ، فقوله : " يأتل " وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين ، تقول العرب آلى يؤلي وائتلى يأتلي إذا حلف ، ومنه قوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم [ 2 \ 226 ] ، أي : يحلفون مضارع آلى يؤلي إذا حلف ، ومنه قول امرئ القيس :
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل
أي حلفت حلفة ، وقول عاتكة بنت زيد العدوية ترثي زوجها - رضي الله عنهم - : عبد الله بن أبي بكر
فآليت لا تنفك عيني حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
والألية اليمين ، ومنه قول الآخر يمدح عمر بن عبد العزيز :
قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت
أي : لا يحلف أصحاب الفضل والسعة ، أي : الغنى كأبي بكر - رضي الله عنه - أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ، وقوله : أن يؤتوا ، أي : لا يحلفوا عن أن يؤتوا ، أو لا يحلفوا ألا يؤتوا وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد . وكذلك حذف لا النافية قبل المضارع بعد القسم ، ولا يؤثر في ذلك هنا كون القسم منهيا عنه ، ومفعول يؤتوا الثاني محذوف ، أي : أن يؤتوا أولي القربى النفقة والإحسان ، كما فعل كمسطح بن أثاثة أبو بكر - رضي الله عنه - .
وقال بعض أهل العلم : قوله : ولا يأتل ، أي : لا يقصر أصحاب الفضل ، والسعة كأبي بكر في إيتاء أولى القربى كمسطح ، وعلى هذا فقوله يأتل يفتعل من ألا يألو في الأمر إذا قصر فيه وأبطأ .
ومنه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا [ ص: 487 ] [ 3 \ 118 ] ، أي لا : يقصرون في مضرتكم ، ومنه بهذا المعنى قول الجعدي :
وأشمط عريانا يشد كتافه يلام على جهد القتال وما ائتلا
وقول الآخر :
وإن كنائني لنساء صدق فما آلى بني ولا أساءوا
فقوله : فما آلى بني : يعني ما قصروا ، ولا أبطئوا والأول هو الأصح ، لأن حلف أبي بكر ألا ينفع مسطحا بنافعة ، ونزول الآية الكريمة في ذلك الحلف معروف . وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن من إيتاء أولى القربى والمساكين الحلف عن فعل البر والمهاجرين ، جاء أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس [ 2 \ 224 ] ، أي : لا تحلفوا بالله عن فعل الخير ، فإذا قيل لكم : اتقوا وبروا ، وأصلحوا بين الناس قلتم : حلفنا بالله لا نفعل ذلك ، فتجعلوا الحلف بالله سببا للامتناع من فعل الخير على الأصح في تفسير الآية .
وقد قدمنا دلالة هاتين الآيتين على المعنى المذكور ، وذكرنا ما يوضحه من الأحاديث الصحيحة في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ 6 \ 89 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وليعفوا وليصفحوا فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا وأصل العفو : من عفت الريح الأثر إذا طمسته .
والمعنى : فليطمسوا آثار الإساءة بحلمهم وتجاوزهم ، والصفح : قال بعض أهل العلم مشتق من صفحة العنق ، أي : أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق ، معرضين عنها . وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ 3 \ 133 - 134 ] وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس من صفات أهل الجنة ، وكفى بذلك حثا على ذلك ، ودلت أيضا : على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به ، وكقوله تعالى [ ص: 488 ] إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] وقد بين تعالى في هذا الآية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى ، وكفى بذلك حثا عليه ، وكقوله تعالى : فاصفح الصفح الجميل [ 15 \ 85 ] وكقوله : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ألا تحبون أن يغفر الله لكم دليل على أن العفو والصفح على المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب ، والجزاء من جنس العمل ، ولذا لما نزلت قال أبو بكر : بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا ، ورجع للإنفاق في مسطح ، ومفعول " أن يغفر الله " محذوف للعلم به : أي يغفر لكم ذنوبكم .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أولي القربى أي : أصحاب القرابة ، ولفظة أولى اسم جمع لا واحد له من لفظه يعرب إعراب الجمع المذكر السالم .