مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة . 
اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من   [ ص: 129 ] كلمهم  ، وأن قول عائشة    - رضي الله عنها - ومن تبعها : إنهم لا يسمعون ، استدلالا بقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى  ، وما جاء بمعناها من الآيات غلط منها رضي الله عنها ، وممن تبعها . 
وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك مبني على مقدمتين : 
الأولى منهما : أن سماع الموتى ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث متعددة ثبوتا لا مطعن فيه ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت . 
والمقدمة الثانية : هي أن النصوص الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم - في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها ، وتأويل عائشة  رضي الله عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة ، لا يجب الرجوع إليه ; لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه ، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتأول بعض الصحابة بعض الآيات ، وسنوضح هنا إن شاء الله صحة المقدمتين المذكورتين ، وإذا ثبت بذلك أن سماع الموتى ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من غير معارض صريح ، علم بذلك رجحان ما ذكرنا ، أن الدليل يقتضي رجحانه . 
أما المقدمة الأولى ، وهي ثبوت سماع الموتى عن النبي - صلى الله عليه وسلم    - ، فقد قال  البخاري  في صحيحه : حدثني عبد الله بن محمد  ، سمع  روح بن عبادة  ، حدثنا  سعيد بن أبي عروبة  عن قتادة  ، قال : ذكر لنا  أنس بن مالك  عن أبي طلحة  أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر  بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش  ، فقذفوا في طوى من أطواء بدر  خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ، ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفة الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ قال : فقال عمر    : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفس محمد  بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " ، قال قتادة    : أحياهم الله له حتى أسمعهم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما . 
فهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول - صلى الله عليه وسلم - من أولئك الموتى بعد ثلاث ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - في ذلك   [ ص: 130 ] تخصيصا ، وكلام قتادة  الذي ذكره عنه  البخاري  اجتهاد منه ، فيما يظهر . 
وقال  البخاري  في " صحيحه " أيضا : حدثني عثمان  ، حدثني عبدة  عن هشام  عن أبيه ، عن  ابن عمر    - رضي الله عنهما - قال : وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قليب بدر  ، فقال : " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ ثم قال : " إنهم الآن يسمعون ما أقول " ، فذكر لعائشة  ، فقالت : إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق " ، ثم قرأت : إنك لا تسمع الموتى  ، حتى قرأت الآية ، انتهى من صحيح  البخاري    . 
وقد رأيته أخرج عن صحابيين جليلين هما :  ابن عمر  ، وأبو طلحة  ، تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أولئك الموتى يسمعون ما يقول لهم ، ورد عائشة  لرواية  ابن عمر  بما فهمت من القرآن مردود ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى . 
وقد أوضحنا في سورة " بني إسرائيل    " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى    [ 17 \ 15 ] ، أن ردها على  ابن عمر  أيضا روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يعذب ببكاء أهله بما فهمت من الآية - مردود أيضا ، وأوضحنا أن الحق مع  ابن عمر  في روايته لا معها فيما فهمت من القرآن . 
وقال  البخاري  في " صحيحه " أيضا : حدثنا عياش  ، حدثنا عبد الأعلى  ، حدثنا سعيد  ، قال : وقال لي خليفة    : حدثنا  ابن زريع  ، حدثنا سعيد  ، عن قتادة  ، عن أنس  رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :   " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا في الجنة " الحديث ، وقد رأيت في هذا الحديث الصحيح تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الميت في قبره ، يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا  ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - فيه تخصيصا . 
وقال  مسلم بن الحجاج    - رحمه الله - في " صحيحه " : حدثني إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي  ، حدثنا  سليمان بن المغيرة  ، عن ثابت  ، قال : قال أنس    : كنت مع عمر    [ ح ] ، وحدثنا  شيبان بن فروخ  ، واللفظ له : حدثنا سليمان بن المغيرة بن ثابت  ، عن  أنس بن مالك  ، قال : كنا مع عمر  بين مكة  والمدينة  فتراءينا الهلال ، الحديث . وفيه : فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرينا مصارع أهل بدر   بالأمس ، يقول : " هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله " ، قال : فقال عمر    : فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلوا في بئر   [ ص: 131 ] بعضهم على بعض ، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى إليهم فقال : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا " ، قال عمر    : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ قال : " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا   " . 
حدثنا  هداب بن خالد  ، حدثنا  حماد بن سلمة  عن  ثابت البناني  ، عن  أنس بن مالك    : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر  ثلاثا ثم أتاهم ، فقام عليهم فناداهم ، فقال : " يا أبا جهل بن هشام  ، يا أمية بن خلف  ، يا عتبة بن ربيعة  ، يا شيبة بن ربيعة  ، أليس قد وجدتم ما وعدكم الله حقا ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فسمع عمر  قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا ؟ قال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " ، ثم أمر بهم فسحبوا ، فألقوا في قليب بدر    . 
ثم ذكر مسلم  بعد هذا رواية أنس  عن أبي طلحة  ، التي ذكرناها عن  البخاري  ، فترى هذه الأحاديث الثابتة في الصحيح عن عمر  وابنه ، وأنس  ، وأبي طلحة  رضي الله عنهم ، فيها التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع من أولئك الموتى لما يقوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أقسم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ولم يذكر تخصيصا ، وقال مسلم  رحمه الله في " صحيحه " أيضا : حدثنا  عبد بن حميد  ، حدثنا  يونس بن محمد  ، حدثنا  شيبان بن عبد الرحمن  ، عن قتادة  ، حدثنا  أنس بن مالك  ، قال : قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم " ، قال : " يأتيه ملكان فيعقدانه   " الحديث ، وفيه تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بسماع الميت في قبره قرع النعال ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، وظاهره العموم في كل من دفن وتولى عنه قومه ، كما ترى . 
ومن الأحاديث الدالة على عموم سماع الموتى ما رواه مسلم  في صحيحه : حدثنا  يحيى بن يحيى التميمي  ،  ويحيى بن أيوب  ،  وقتيبة بن سعيد  ، قال يحيى بن يحيى    : أخبرنا ، وقال الآخران : حدثنا  إسماعيل بن جعفر  عن  شريك ، وهو ابن أبي نمر  ، عن  عطاء بن يسار  ، عن عائشة  رضي الله عنها ، أنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع  ، فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد    " ، ولم يقم قتيبة  قوله : " وأتاكم ما توعدون " ، وفي رواية في صحيح مسلم  عنها ، قالت : كيف أقول لهم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : " قولي : السلام على أهل   [ ص: 132 ] الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون " ، ثم قال مسلم  رحمه الله : حدثنا  أبو بكر بن أبي شيبة  ،  وزهير بن حرب  ، قالا : حدثنا  محمد بن عبد الله الأسدي  عن سفيان  ، عن  علقمة بن مرثد  ، عن  سليمان بن بريدة  ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر ، فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر    : " السلام على أهل الديار   " ، وفي رواية زهير    : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية   " ، انتهى من " صحيح مسلم    " . 
وخطابه - صلى الله عليه وسلم - لأهل القبور بقوله : " السلام عليكم   " ، وقوله : " وإنا إن شاء الله بكم   " ، ونحو ذلك يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم ، ولا شك أن ذلك ليس من شأن العقلاء ، فمن البعيد جدا صدوره منه - صلى الله عليه وسلم - ، وسيأتي إن شاء الله ذكر حديث  عمرو بن العاص  الدال على أن الميت في قبره يستأنس بوجود الحي عنده    . 
وإذا رأيت هذه الأدلة الصحيحة الدالة على سماع الموتى ، فاعلم أن الآيات القرآنية ; كقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى  ، وقوله : وما أنت بمسمع من في القبور    [ 35 \ 22 ] لا تخالفها ، وقد أوضحنا الصحيح من أوجه تفسيرها ، وذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه ، وأن استقراء القرآن يدل عليه . 
وممن جزم بأن الآيات المذكورة لا تنافي الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا أبو العباس ابن تيمية  ، فقد قال في الجزء الرابع من " مجموع الفتاوي " من صحيفة خمس وتسعين ومائتين ، إلى صحيفة تسع وتسعين ومائتين ، ما نصه : وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة ، كما في الحديث الذي صححه  ابن عبد البر  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال :   " ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام   " . وفي سنن أبي داود  وغيره عن أوس بن أبي أوس الثقفي  ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :   " إن خير أيامكم يوم الجمعة ، فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علي " ، قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء    " ، وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ، ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه ، مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء الله ذلك كما يشاء  ، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذبة ، ولذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسلام على الموتى ، كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم   [ ص: 133 ] أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم   " . وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم ، ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة ، ولكن لا يجب أن يكون دائما على البدن في كل وقت ، بل يجوز أن يكون في حال . 
وفي الصحيحين عن  أنس بن مالك    - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر  ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم ، فقال : " يا أبا جهل بن هشام  ، يا أمية بن خلف  ، يا عتبة بن ربيعة  ، يا شيبة بن ربيعة  أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فسمع عمر    - رضي الله عنه - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله كيف يسمعون وقد جيفوا ؟ فقال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " ، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر  ، وقد أخرجاه في الصحيحين عن  ابن عمر  رضي الله عنهما ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على قليب بدر  ، فقال : " هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا " ؟ وقال : " إنهم ليسمعون الآن ما أقول   " ، فذكر ذلك لعائشة  فقالت : وهم  ابن عمر  ، إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلت لهم هو الحق " ، ثم قرأت قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى  ، حتى قرأت الآية   . 
وأهل العلم بالحديث اتفقوا على صحة ما رواه أنس   وابن عمر  ، وإن كانا لم يشهدا بدرا  ، فإن أنسا  روى ذلك عن أبي طلحة  ، وأبو طلحة  شهد بدرا  كما روى أبو حاتم  في صحيحه ، عن أنس  ، عن أبي طلحة  رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر  بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش  ، فقذفوا في طوى من أطواء بدر ، وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عرصتهم ثلاث ليال ، فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها ، ثم مشى وتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفاء الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " يا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا " ، قال  عمر بن الخطاب    : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم   " ، قال قتادة    : أحياهم الله   [ ص: 134 ] حتى أسمعهم توبيخا ، وتصغيرا ، ونقمة ، وحسرة ، وتنديما ، وعائشة  قالت فيما ذكرته كما تأولت . 
والنص الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره ، وليس في القرآن ما ينفي ذلك ، فإن قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى  ، إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه ، فإن هذا مثل ضربه الله للكفار ، والكفار تسمع الصوت ، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع ; كما قال تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء    [ 2 \ 171 ] ، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع ، بل السماع المعتاد كما لم ينف ذلك عن الكفار ، بل انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به . 
وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين ، فهذا موافق لهذا فكيف يرفع ذلك ، انتهى محل الغرض من كلام أبي العباس ابن تيمية    . وقد تراه صرح فيه بأن تأول عائشة  لا يرد به النص الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه ليس في القرآن ما ينفي السماع الثابت للموتى في الأحاديث الصحيحة . 
وإذا علمت به أن القرآن ليس فيه ما ينفي السماع المذكور ، علمت أنه ثابت بالنص الصحيح ، من غير معارض . 
والحاصل أن تأول عائشة    - رضي الله عنها - بعض آيات القرآن ، لا ترد به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، ويتأكد ، ذلك بثلاثة أمور : 
الأول : هو ما ذكرناه الآن من أن رواية العدل لا ترد بالتأويل . 
الثاني : أن عائشة    - رضي الله عنها - لما أنكرت رواية  ابن عمر  عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :   " إنهم ليسمعون الآن ما أقول   " ، قالت : إن الذي قاله - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم هو الحق " ، فأنكرت السماع ونفته عنهم ، وأثبتت لهم العلم ، ومعلوم أن من ثبت له العلم صح منه السماع ، كما نبه عليه بعضهم . 
الثالث : هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها ، إلى الروايات الصحيحة . 
ب قال ابن حجر  في " فتح الباري " : ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق  رواية  يونس بن بكير  بإسناد جيد ، عن عائشة  مثل حديث أبي طلحة  ، وفيه :   " ما أنتم بأسمع لما   [ ص: 135 ] أقول منهم   " ، وأخرجه أحمد  بإسناد حسن ، فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة ; لكونها لم تشهد القصة ، انتهى منه . واحتمال رجوعها لما ذكر قوي ، لأن ما يقتضي رجوعها ثبت بإسنادين . 
قال ابن حجر    : إن أحدهما جيد ، والآخر حسن . ثم قال ابن حجر    : قال الإسماعيلي :  كان عند عائشة  من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ، ما لا مزيد عليه ، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله يدل على نسخه أو تخصيصه ، أو استحالته  ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر    . 
وقال ابن القيم  في أول " كتاب الروح " : المسألة الأولى : وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا ؟  قال  ابن عبد البر    : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام   " ، فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ، ويرد عليه السلام . 
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة : أنه أمر بقتلى بدر  فألقوا في قليب ، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فقال له عمر    : يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا ، فقال : " والذي بعثني بالحق ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون جوابا   " . 
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - : أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه ، وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته إذا سلموا على أهل القبور ، أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه ، فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين   " ، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد ، والسلف مجمعون على هذا ، وقد تواترت الآثار عنهم أن الميت يعرف زيارة الحي له ، ويستبشر له ، قال  أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا  في " كتاب القبور " : 
				
						
						
