قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين   ، صرح في هذه الآية ، أنه غني عن خلقه ، وأن كفر من كفر منهم لا يضره شيئا ، وبين هذا المعنى في مواضع متعددة ، كقوله عن نبيه موسى    : وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد    [ 14 \ 8 ] ،   [ ص: 203 ] وقوله : إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر    [ 39 \ 7 ] ، وقوله : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد    [ 64 \ 6 ] ، وقوله : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني    [ 10 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . 
فالله تبارك وتعالى يأمر الخلق وينهاهم لا لأنه تضره معصيتهم ، ولا تنفعه طاعتهم ، بل نفع طاعتهم لهم وضرر معصيتهم عليهم ، كما قال تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها    [ 17 \ 7 ] ، وقال : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها    [ 41 \ 46 ] ، وقال : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد    [ 35 \ 15 ] . 
وثبت في " صحيح مسلم    " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه أنه قال : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا   " الحديث . 
تنبيه : 
قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين  ، بعد قوله : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا    [ 3 \ 97 ] ، يدل على أن من لم يحج كافر ، والله غني عنه . 
وفي المراد بقوله : ومن كفر  أوجه للعلماء . الأول : أن المراد بقوله : ومن كفر  أي : ومن جحد فريضة الحج ،  فقد كفر والله غني عنه ، وبه قال :  ابن عباس  ، ومجاهد ،  وغير واحد قاله ابن كثير    . ويدل لهذا الوجه ما روي عن عكرمة  ومجاهد  من أنهما قالا لما نزلت : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه    [ 3 \ 85 ] ، قالت اليهود    : فنحن مسلمون . 
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، فقالوا : لم يكتب علينا ، وأبوا أن يحجوا   " . قال الله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين    [ 3 \ 97 ] . 
 [ ص: 204 ] الوجه الثاني : أن المراد بقوله : ومن كفر    [ 3 \ 97 ] ، أي : ومن لم يحج على سبيل التغليظ البالغ في الزجر عن ترك الحج مع الاستطاعة كقوله للمقداد الثابت  في " الصحيحين " حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب : " لا تقتله ، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال   " . 
الوجه الثالث : حمل الآية على ظاهرها وأن من لم يحج مع الاستطاعة فقد كفر . 
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من ملك زادا وراحلة ، ولم يحج بيت الله  فلا يضره ، مات يهوديا ، أو نصرانيا ; وذلك بأن الله قال : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين    " [ 3 \ 97 ] . 
روى هذا الحديث الترمذي  ،  وابن جرير  ،  وابن أبي حاتم  ، وابن مردويه  ، كما نقله عنهم ابن كثير  وهو حديث ضعيف ضعفه غير واحد بأن في إسناده هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي  ، وهلال هذا . قال الترمذي    : مجهول ، وقال  البخاري    : منكر الحديث ، وفي إسناده أيضا الحارث  الذي رواه عن علي    - رضي الله عنه - قال الترمذي    : إنه يضعف في الحديث . وقال  ابن عدي    : هذا الحديث ليس بمحفوظ . انتهى بالمعنى من ابن كثير .  
وقال ابن حجر :  في " الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف " : في هذا الحديث أخرجه الترمذي  من رواية هلال بن عبد الله الباهلي ،  حدثنا أبو إسحاق  عن الحارث  ، عن علي  رفعه : " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ، ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا   " . 
وقال : غريب وفي إسناده مقال ، وهلال بن عبد الله  مجهول ، والحارث  يضعف ، وأخرجه البزار  من هذا الوجه ، وقال : لا نعلمه عن علي  إلا من هذا الوجه ، وأخرجه  ابن عدي  ،  والعقيلي  في ترجمة هلال  ، ونقلا عن  البخاري  أنه منكر الحديث . 
وقال البيهقي  في " الشعب " : تفرد به هلال  وله شاهد من حديث أبي أمامة  ، أخرجه الدارمي  بلفظ : " من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة ، أو سلطان جائر ، أو مرض حابس ، فمات فليمت إن شاء يهوديا ، أو إن شاء نصرانيا " ، أخرجه من رواية شريك  عن  ليث بن أبي سليم  ، عن عبد الرحمن بن سابط  عنه ، ومن هذا الوجه أخرجه   [ ص: 205 ] البيهقي  في " الشعب " ، وأخرجه  ابن أبي شيبة  عن أبي الأحوص  ، عن ليث  ، عن عبد الرحمن  مرسلا لم يذكر أبا أمامة  وأورده  ابن الجوزي  في " الموضوعات " من طريق  ابن عدي  ،  وابن عدي  وأورده في " الكامل " في ترجمة أبي المهزوم يزيد بن سفيان  عن  أبي هريرة  مرفوعا نحوه ، ونقل عن القلاس أنه كذب أبا المهزوم ، وهذا من غلط  ابن الجوزي  في تصرفه ; لأن الطريق إلى أبي أمامة  ليس فيها من اتهم بالكذب . 
وقد صح عن  عمر بن الخطاب -  رضي الله عنه - أنه قال : من أطاق الحج فلم يحج  فسواء مات يهوديا أو نصرانيا ، والعلم عند الله تعالى . 
				
						
						
