وقد تقرر في الأصول ، في مسلك الإيماء والتنبيه ، أن الفاء من حروف التعليل كقوله : سهى فسجد ، وسرق فقطعت يده ، أو لعلة السهو في الأول ، ولعلة السرقة في الثاني ، وأتبع ذلك بالتهديد لمن اتبع الهوى ، فأضله ربنا عن سبيل الله ، في قوله تعالى بعده يليه : إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب [ 38 \ 26 ] .
[ ص: 340 ] ومعلوم أن نبي الله داود لا يحكم بغير الحق ، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله ، ولكن الله تعالى ، يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ، وينهاهم ليشرع لأممهم .
ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم ، بمثل ما أمر به داود ، ونهاه أيضا عن مثل ذلك ، في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [ 15 \ 42 ] . وقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك [ 15 \ 49 ] وكقوله تعالى : ولا تطع الكافرين والمنافقين [ 33 \ 48 ] وقوله تعالى : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] وقوله تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه الآية [ 18 \ 28 ] .
وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] .
وبينا أن من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب ، والمراد بذلك الخطاب غيره يقينا قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما الآية [ 17 \ 23 ] ، ومن المعلوم أن أباه صلى الله عليه وسلم توفي قبل ولادته ، وأن أمه ماتت وهو صغير ، ومع ذلك فإن الله يخاطبه بقوله تعالى : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ومعلوم أنه لا يبلغ عنده الكبر أحدهما ، ولا كلاهما لأنهما قد ماتا قبل ذلك بزمان .
فتبين أن أمره تعالى لنبيه ونهيه له في قوله فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة الآية ، إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته ، ولا يراد به هو نفسه صلى الله عليه وسلم ، وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب . إياك أعني واسمعي يا جارة ، وذكرنا في ذلك رجز سهل بن مالك الفزاري الذي خاطب به امرأة ، وهو يقصد أخرى وهي أخت حارثة بن لأم الطائي وهو قوله :
يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره أصبح يهوى حرة معطاره
إياك أعني واسمعي يا جاره
وذكرنا هناك الرجز الذي أجابته به المرأة ، وقول بعض أهل العلم : إن الخطاب في [ ص: 341 ] قوله : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما الآية ، هو الخطاب بصيغة المفرد ، الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه . كقول طرفة بن العبد في معلقته :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أي ستبدي لك ويأتيك أيها الإنسان الذي يصح خطابك ، وعلى هذا فلا دليل في الآية ، غير صحيح ، وفي سياق الآيات قرينة قرآنية واضحة دالة على أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم . وعليه فالاستدلال بالآية ، استدلال قرآني صحيح ، والقرينة القرآنية المذكورة ، هي أنه تعالى قال في تلك الأوامر والنواهي التي خاطب بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، التي أولها : وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر الآية . ما هو صريح ، في أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم ، لا عموم كل من يصح منه الخطاب ، وذلك في قوله تعالى : ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا [ 17 \ 39 ] .