قوله تعالى : فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن الآية ، يعني : كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فأعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك ، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض الآية [ 4 \ 21 ] ، فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملا ، هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله : فما استمتعتم به منهن الآية [ 4 \ 24 ] ، وقوله : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة [ 4 \ 4 ] ، وقوله : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الآية [ 2 \ 229 ] . فالآية في عقد النكاح ، لا في نكاح المتعة كما قال به من لا يعلم معناها ، فإن قيل : التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة ; لأن الصداق لا يسمى أجرا ، فالجواب أن القرآن جاء في تسمية الصداق أجرا في موضع لا نزاع فيه ; لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرح به تعالى في قوله : وكيف تأخذونه الآية ، صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسمي أجرا ، وذلك الموضع هو قوله تعالى : فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن الآية [ 4 \ 25 ] ، أي : مهورهن بلا نزاع ، ومثله قوله تعالى : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن الآية [ 5 \ 5 ] . أي : مهورهن فاتضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة ، فإن قيل : كان ابن عباس ، وأبي بن كعب ، وسعيد بن جبير والسدي يقرءون : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ، وهذا يدل على أن الآية في نكاح المتعة ، فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قولهم إلى أجل مسمى لم يثبت قرآنا ; لإجماع الصحابة على عدم كتبه في المصاحف العثمانية ، وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرآن ، ولم يثبت كونه قرآنا لا يستدل به على شيء ; لأنه باطل من أصله ; لأنه لما لم ينقله إلا على أنه قرآن فبطل كونه قرآنا ظهر بطلانه من أصله .
الثاني : أنا لو مشينا على أنه يحتج به كالاحتجاج بخبر الآحاد كما قال به قوم ، أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك ، فهو معارض بأقوى منه ; لأن جمهور العلماء على [ ص: 237 ] خلافه ; ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم ، وصرح - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة ، كما ثبت في " صحيح نكاح المتعة مسلم " من سبرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه - أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة . فقال : " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع في النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " . حديث
وفي رواية لمسلم في حجة الوداع : ولا تعارض في ذلك ; لإمكان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك يوم فتح مكة ، وفي حجة الوداع أيضا والجمع واجب إذا أمكن ، كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث .
الثالث : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن الآية تدل على إباحة نكاح المتعة فإن إباحتها منسوخة كما صح نسخ ذلك في الأحاديث المتفق عليها عنه - صلى الله عليه وسلم - وقد نسخ ذلك مرتين الأولى يوم خيبر كما ثبت في الصحيح ، والآخرة يوم فتح مكة ، كما ثبت في الصحيح أيضا .
وقال بعض العلماء : نسخت مرة واحدة يوم الفتح ، والذي خيبر تحريم لحوم الحمر الأهلية فقط ، فظن بعض الرواة أن يوم وقع في خيبر ظرف أيضا لتحريم المتعة .
واختار هذا القول ابن القيم ، ولكن بعض الروايات الصحيحة ، صريحة في أيضا ، فالظاهر أنها حرمت مرتين كما جزم به غير واحد ، وصحت الرواية به . والله تعالى أعلم . تحريم المتعة يوم خيبر
الرابع : أنه تعالى صرح بأنه يجب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية في قوله تعالى : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 6 ] ، في الموضعين ، ثم صرح بأن المبتغى وراء ذلك من العادين بقوله : فمن ابتغى وراء ذلك الآية [ 23 \ 7 ] .
ومعلوم أن المستمتع بها ليست مملوكة ولا زوجة ، فمبتغيها إذن من العادين بنص القرآن ، أما كونها غير مملوكة فواضح ، وأما كونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث ، والعدة ، والطلاق ، والنفقة ، ولو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق ووجبت لها النفقة ، كما هو ظاهر ، فهذه الآية التي هي : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ ص: 238 ] [ 23 \ 75 - 29 ، 31 ] ، صريحة في منع الاستمتاع بالنساء الذي نسخ . وسياق الآية التي نحن بصددها يدل دلالة واضحة على أن الآية في عقد النكاح كما بينا لا في نكاح المتعة ; لأنه تعالى ذكر المحرمات التي لا يجوز نكاحها بقوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] الخ . . .
ثم بين أن غير تلك المحرمات حلال بالنكاح بقوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين [ 4 \ 24 ] ، ثم بين أن من نكحتم منهن واستمتعتم بها يلزمكم أن تعطوها مهرها ، مرتبا لذلك بالفاء على النكاح بقوله : فما استمتعتم به منهن الآية [ 4 \ 24 ] ، كما بيناه واضحا ، والعلم عند الله تعالى .