أخذ بعض علماء الأصول من هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ 2 \ 29 ] - أن ، حتى يرد دليل خاص بالمنع ، لأن الله امتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض ، وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه في آية الرحمن هذه ، وامتن عليهم بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعا في قوله : الأصل فيما على الأرض الإباحة هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا .
ومعلوم أنه - جل وعلا - لا يمتن بحرام إذ لا منة في شيء محرم ، واستدلوا لذلك أيضا بحصر المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : [ ص: 496 ] قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير الآية [ 6 \ 145 ] ، وقوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن الآية [ 7 \ 33 ] ، وقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآية [ 6 \ 151 ] .
وفي هذه المسألة قولان آخران :
أحدهما : أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة ، واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله - جل وعلا - ، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه ، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول ، ليس هذا محل بسطها .
القول الثاني : هو الوقف وعدم الحكم فيها بمنع ولا إباحة حتى يقوم الدليل ، فتحصل أن في المسألة ثلاثة مذاهب : المنع ، والإباحة ، والوقف .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل ، لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس - بها ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر كأنواع الفواكه وغيرها .
الثانية : أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع كأكل الأعشاب السامة القاتلة .
الثالثة : أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى ، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر ، فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك لعموم قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا . وقوله : والأرض وضعها للأنام الآية .
وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم لقوله - صلى الله عليه وسلم : " " . لا ضرر ولا ضرار
وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون النفع أرجح من الضرر .
والثانية : عكس هذا .
والثالثة : أن يتساوى الأمران .
فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساويا له فالمنع لحديث : " لا ضرر ولا [ ص: 497 ] ضرار " ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وإن كان النفع أرجح ، فالأظهر الجواز ، لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
وألغ إن يك الفساد أبعدا
أو رجح الإصلاح كالأسارى تفدى بما ينفع للنصارى
وانظر تدلي دولي العنب في كل مشرق وكل مغرب
الأول منهما : أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة ، التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى .
الثاني : أن ، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه ، لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة . وهذا التفصيل الذي اخترنا قد أشار له صاحب مراقي السعود بقوله : انتفاع الناس بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب
والحكم ما به يجيء الشرع وأصل كل ما يضر المنع