قوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
الأمثال : جمع مثل ، وهو مأخوذ من المثل ، وأصل المثل الانتصاب ، والممثل بوزن اسم المفعول المصور على مثال غيره .
قال يقال : مثل الشيء إذا انتصب وتصور ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " الراغب الأصفهاني ، " ، والتمثال : الشيء المصور ، وتمثل كذا تصور قال تعالى : من أحب أن يمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار فتمثل لها بشرا سويا [ 19 \ 17 ] .
[ ص: 65 ] والمثل : عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، نحو قولهم : الصيف ضيعت اللبن ، فإن هذا القول يشبه قولك : أهملت وقت الإمكان أمرك ، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال فقال : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] .
وفي آية أخرى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] .
والمثال يقال على وجهين :
أحدهما : بمعنى المثل نحو مشبه ومشبه به ، قال بعضهم : وقد يعبر بهما عن وصف الشيء ، نحو قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون .
والثاني : عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان ، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة .
وذلك أن الند يقال فيما يشارك في الجوهر فقط .
والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط .
والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط .
والشكل يقال فيما يشارك في القدر والمساحة فقط ، والمثل عام في جميع ذلك .
ولهذا لما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] . . . إلخ . ا هـ .
فقوله في تعريف المثل إنه عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر ، بينهما مشابهة ؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره .
فإنهم اتفقوا على أن القول لا يتغير بل يحكى على ما قيل أولا كقولهم : الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء خطابا للمؤنثة .
فلو قيل لرجل أهمل وقت الإمكان ثم راح يطلبه بعد فواته ، لقلت له : الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء على الحكاية .
[ ص: 66 ] وهذا مما يسمى الاستعارة التمثيلية من أبلغ الأساليب ، وأكثر ما في القرآن من أمثلة إنما هو من قبيل التشبيه التمثيلي ، وهو تشبيه صورة بصورة ، وهو من أوضح أساليب البيان .
وقد ساق الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عددا منها في الجزء الرابع عند قوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 54 ] ، ومن أهم أغراض هذا النوع من التشبيه هو بيان صورة بصورة وجعل الخفي جليا ، والمعنوي محسوسا كقوله تعالى : له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه [ 13 \ 14 ] .
فلو نظرت إلى مثل هذا الشخص على هذه الحالة ، وفي تلك الصورة بكل أجزائها ، وهو باسط يده مفرجة الأصابع إلى ماء بعيد عنه ، وهو فاغر فاه ؛ ليشرب ، لقلت : وأي جدوى تعود عليه ، ومتى يذوق الماء وهو على تلك الحالة ، إنه يموت عطشا ولا يذوق منه قطرة .
وكذلك حال من يدعو غير الله مع ما يدعوهم من دونه لا يحصل على طائل كقوله تعالى : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون [ 29 \ 41 ] فأي غناء لإنسان في بيت العنكبوت .
وكذلك أي غناء في ولاية غير الله فكذلك الحال هنا ، أريد بالأمثال صور يصور لانتزاع الحكم من السامع بعد أن تصبح الصورة محسوسة ملموسة ، وانظر قوله تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [ 2 \ 187 ] وكيف غطى وأخفى في هذا الأسلوب ما يستحى منه وأبرزه بلباسه في التشبيه بما يتقى به ، ومدى مطابقة معنى اللباس لحاجة كل من الزوجين للآخر ، وتلك في قوله تعالى : وتلك الأمثال [ 59 \ 21 ] عائدة إلى الأمثلة المتقدمة قريبا في عمل المنافقين مع اليهود ونتائج أعمالهم ، وهكذا كل موالاة بين غير المسلمين وكل معاداة وانصراف عما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .
وكذلك في بيان مدى فعالية القرآن وتأثيره ، لو أنزل على الجبال ؛ لخشعت ، وتصدعت مما يستوجب التفكير فيه والاتعاظ به ، ثم مثال الفريقين في قوله تعالى : [ ص: 67 ] ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم [ 59 \ 19 ] ، ونتيجة ذلك في الآخرة من عدم استواء الفريقين ، فأصحاب نار وأصحاب جنة .
ولكأن الأمثال هنا والتنبيه عليها إشارة إلى أن أولئك بنسيانهم لله وإنسائه إياهم أنفسهم ، صاروا بهذا النسيان أشد قساوة من الجبال ، بل إن الجبال أسرع تأثرا بالقرآن منهم لو كانوا يتفكرون .
وقد قال أبو السعود : إنه أراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تخشعه عند تلاوته وقلة تدبره فيه . ا هـ .
وهكذا بهذه الأمثلة ينتزع الحكم من السامع على أولئك المعرضين الغافلين بأن قلوبهم قاسية كالجبال أو أشد قسوة كما قدمنا ، بخلاف المؤمنين تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق كما قال تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء [ 39 \ 23 ] .