ومن تأمل ، وعلى قدرته ، على البعث وهما أهم القضايا العقائدية يجد أهمها وأوضحها وأكثرها ، هو هذا الدليل ، أعني دليل الخلق والتصوير . براهين القرآن على وحدانية الله تعالى
وقد جاء هذا الدليل في القرآن جملة وتفصيلا ، فمن الإجمال ما جاء في أصل المخلوقات جميعا : الله خالق كل شيء [ 13 \ 16 ] وقوله تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] ، وقال : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ثم قال : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء [ 36 \ 83 ] ، وقال : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة [ 67 \ 1 - 2 ] أي : خالق الإيجاد والعدم ، وخلق العدم يساوي في الدلالة على القدرة خلق الإيجاد ؛ لأنه إذا لم يقدر على إعدام ما أوجد يكون الموجود مستعصيا عليه ، فيكون عجزا في الموجد له ، كمن يوجد اليوم سلاحا ولا يقدر على إعدامه ، وإبطال مفعوله ، فقد يكون سببا في إهلاكه ، ولا تكتمل القدرة حقا إلا بالخلق والإعدام معا ، وقال في خلق [ ص: 71 ] السماوات والأرض : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] .
وقال في : خلق الأفلاك وتنظيمها وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر [ 21 \ 33 ] .
ثم في أصول الموجودات في الأرض بقوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ 2 \ 29 ] .
وفي أصول الأجناس : الماء والنار والنبات والإنسان ، قال : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] .
وذكر معه القدرة على الإعدام : نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين [ 56 \ 60 ] .
وفي أصول النبات : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون [ 56 \ 63 ، 64 ] .
وفي أصول الماء : أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ 56 \ 68 - 69 ] .
وفي أصول تطوير الحياة : أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون [ 56 \ 71 - 72 ] .
وفي جانب الحيوان أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت الآية [ 88 \ 17 ] .
ولهذا فقد تمدح تعالى بهذه الصفة صفة الخلق وصفة آلهة المشركين بالعجز ، كما قال تعالى : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم [ 31 \ 10 ] ، ثم قال : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين [ 31 \ 11 ] .
ومعلوم أنها لم تخلق شيئا كما قال تعالى موبخا لهم : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] ، وبين أنهما لا يستويان في قوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، ثم بين نهاية ضعفها وعجزها في قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا [ 25 \ 3 ] [ ص: 72 ] وهذا غاية العجز ، كما ضرب لذلك المثل بقوله : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب [ 22 \ 73 ] فهم حقا لا يملكون لأنفسهم نفعا ، ولا ضرا ولو بقدر الذبابة وهكذا ترى صفة الخلق المتصف بها سبحانه وتعالى أعظم دليل على وحدانية الله تعالى ، وهي متضمنة صفة التصوير والعلم لأن لكل مخلوق صورة تخصه ، ولا يكون ذلك إلا عن علم بالغيب والشهادة ، كما تقدم .
وهكذا أيضا كان هذا الدليل ، كما قال تعالى : أقوى الأدلة على البعث أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 77 - 83 ] إلى آخر السورة .
وكذلك في قوله تعالى صريحا في ذلك ونصا عليه : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ 22 \ 5 ] ثم قال تعالى : ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 6 - 7 ] .
ثم بين تعالى أن جاحد هذا الدليل إنما هو مكابر جاهل ، ضال مضل ، وذلك في قوله بعده مباشرة : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد [ 22 \ 8 - 10 ] .
ومن هنا كان أول نداء في المصحف يوجه إلى الناس جميعا بعبادة الله كان لاستحقاقه عبادته وحده ، لأنه متصف بصفة الخلق كما قال تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ ص: 73 ] [ 2 \ 21 - 22 ] أي : لأنهم ليسوا له بأنداد فيما اتصف به سبحانه فلا تشركوهم مع الله في عبادته .
فكانت هذه الصفات لله تعالى في آخر هذه السورة حقا أدلة على إثبات وحدانية الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته ، وأنه المستحق لأن يعبد وحده لا إله إلا هو .
والواجب على الخلق عما يشركون ، يسبح له ما في السماوات والأرض ؛ لأنها من مخلوقاته وهو العزيز الحكيم ، وقوله تعالى : تنزيهه عما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى [ 20 \ 8 ] لم يبين هنا المراد من أنه سبحانه له الأسماء الحسنى ، وقد بين في سورة الأعراف المراد بذلك في قوله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ 7 \ 180 ] .
قال القرطبي : ؛ لأنها حسنة في الأسماع والقلوب ، فإنها تدل على توحيده وكرمه وجوده وإفضاله ، ومجيء قوله تعالى : سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى له الأسماء الحسنى بعد تعداد أربعة عشر اسما من أسمائه سبحانه يدل على أن له أكثر من ذلك ، ولم يأت حصرها ولا عدها في آية من كتاب الله .
وقد جاء في الصحيحين عن - رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أبي هريرة " . إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر
وسرد ابن كثير عدد المائة مع اختلاف في الروايات .
وذكر عن آية " الأعراف " أنها ليست محصورة في هذا العدد لحديث في مسند ابن مسعود أحمد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " " الحديث ا هـ . ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وهمه
ومحل الشاهد منه ظاهر في أن لله أسماء أنزلها في كتبه ، وأسماء خص بها بعض خلقه كما خص الخضر بعلم من لدنه ، وأسماء استأثر بها في علم الغيب عنده ، كما يدل [ ص: 74 ] حديث الشفاعة : " " ، والواقع أنه لا تعارض بين الحديثين . فيلهمني ربي بمحامد لم أكن أعرفها من قبل
لأن الأول : يتعلق بعدد معين ، وبما يترتب عليها من الجزاء .
والحديث الثاني : يتعلق ببيان أقسام أسمائه تعالى ، من حيث العلم بها وتعليمها وما أنزل منها .
وقد ذكر هذا الجمع ابن حجر في الفتح في كتاب الدعوات عند باب : لله مائة اسم غير واحد .
وقد حاول بعض العلماء استخراج المائة اسم من القرآن فزادوا ونقصوا ؛ لاعتبارات مختلفة ، وقد أطال في الفتح بحث هذا الموضوع في أربع عشرة صحيفة مما لا غنى عنه ولا يمكن نقله ، ولا يصلح تلخيصه .
وقد ذكر من أفردها بالتأليف .
كما أن القرطبي ذكر أنه ألف فيها ، وأساس البحث يدور على نقطتين :
الأولى : تعيين المائة اسم المرادة .
والثانية : معنى أحصاها ، وفي رواية حفظها .
وقد حضرت مجلسا للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في بيته مع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وسأله عن الصحيح في ذلك ، فكان حاصل ما ذكر في ذلك المجلس أن التعيين لم يأت فيه نص صحيح ، وأن الإحصاء أو الحفظ لا ينبغي حمله على مجرد الحفظ للألفاظ غيبا ، ولكن يحمل على أحصى معانيها وحفظها من التحريف فيها والتبديل والتعطيل ، وحاول التخلق بحسن صفاتها كالحلم والعفو والرأفة والرحمة والكرم ، ونحو ذلك ، والحذر من مثل الجبار والقهار ، ومراقبة مثل : الحسيب الرقيب ، وكذلك التعرض لمثل التواب والغفور بالتوبة وطلب المغفرة ، والهادي والرزاق بطلب الهداية والرزق ونحو ذلك .
ونقل القرطبي عن ابن العربي عند قوله تعالى : فادعوه بها [ 7 \ 180 ] أي : اطلبوا منه بأسمائه ، فيطلب بكل اسم ما يليق به تقول : يا رحمان ارحمني ، يا رزاق [ ص: 75 ] ارزقني ، يا هادي اهدني ، يا تواب تب علي ، وهكذا رتب دعاءك تكن من المخلصين ا هـ .