المسجد النبوي للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . شد الرحال إلى
ومما اختص به المسجد النبوي ، بل ومن أهم خصائصه بعد الصلاة ، السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من داخل هذا المسجد قديما وحديثا .
كما جاء في الصحيح : " " ومجمعون أن ذلك يحصل لمن سلم عليه - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، وما كان هذا السلام يوما من الأيام إلا من ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي ، فأرد عليه السلام المسجد النبوي ، سواء قبل أو بعد إدخال الحجرة في المسجد .
ومعلوم أن أول والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - ، البدء بصلاة ركعتين تحية المسجد ، وبعد السلام ينصرف عن المواجهة ، ويدعو ما شاء وهو في أي مكان من المسجد . آداب الزيارة
وهنا مسألة طالما أثير النزاع فيها : وهي شد الرحال للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهي إن كان محلها مبحث الزيارة وأحكامها وآدابها ، إلا أننا نسوق موجزا عنها بمناسبة حديث شد الرحال ، ونسأل الله تعالى الهداية والتوفيق .
من المعلوم أن أصل هذه المسألة هو حديث : " " المتقدم ذكره ; لاختلافهم في تقدير المستثنى منه . والمراد بشد الرحال إليه في تلك [ ص: 339 ] المساجد ، أهو خصوص الصلاة أم للصلاة وغيرها ؟ . لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
ولنتصور حقيقة هذه المسألة ينبغي أن نعلم أولا : أن البحث في هذه المسألة له ثلاث حالات :
الأولى : شد الرحال إلى المسجد النبوي للزيارة . وهذا مجمع عليه .
الثانية : زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه من قريب بدون شد الرحال ، وهذا أيضا مجمع عليه .
الثالثة : شد الرحال للزيارة فقط . وهذه الحالة الثالثة هي محل البحث عندهم ، ومثار النقاش السابق .
قال ابن حجر في فتح الباري على حديث شد الرحال : قال الكرماني : وقد وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة ، وصنفت فيها مسائل من الطرفين .
قلت : - أي : ابن حجر - يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على تقي الدين بن تيمية ، وما انتصر به الحافظ : وغيره شمس الدين بن عبد الهادي لابن تيمية ، وهي مشهورة في بلادنا . اهـ . وهذا يعطينا مدى الخلاف فيها وتاريخه .
وقد أشار ابن حجر إلى مجمل القول فيها بقوله : إن الجمهور أجازوا بالإجماع شد الرحال لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن حديث : " " إنما يقصد به خصوص الصلاة ، وليس مكان أولى من مكان بالصلاة تشد له الرحال إلا المساجد الثلاثة ; لما خصت من فضيلة مضاعفة الصلاة فيها . لا تشد الرحال
تقي الدين جعل موضوع النهي عن شد الرحال عاما للصلاة وغيرها . واعترض عليه باتفاق الأمة على جواز شد الرحال لأي مكان ; لعدة أمور كما هو معلوم .
ومما استدل به على عدم ، ما روي عن شد الرحال لمجرد الزيارة مالك : كراهية أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأجيب عن ذلك : بأن كراهية مالك للفظ فقط تأدبا لا أنه كره أصل الزيارة ، فإنها من أفضل الأعمال ، وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال ، وأن مشروعيتها محل إجماع [ ص: 340 ] بلا نزاع . والله الهادي إلى الصواب . اهـ .
ولعل مذهب حسب صنيعه هو مذهب الجمهور ; لأنه أتى في نفس الباب ، بعد حديث شد الرحال مباشرة بحديث : " البخاري " ، مما يشعر بأنه قصد بيان موجب شد الرحال هو فضيلة الصلاة ، فيكون النهي عن شد الرحال مختصا بالمساجد ، ولأجل الصلاة إلا في تلك المساجد الثلاثة ; لاختصاصها بمضاعفة الصلاة فيها دون غيرها من بقية المساجد والأماكن الأخرى . صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه
وقد ناقش ابن حجر لفظ الحديث ، ورجح هذا المذهب حيث قال :
قال بعض المحققين : قوله : " " المستثنى منه محذوف . فإما أن يقدر عاما فيصير لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة . أو أخص من ذلك . لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها ، فتعين الثاني . إلا إلى ثلاثة مساجد
والأولى : أن يقدر ما هو أكثر مناسبة ، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة . فيبطل بذلك قول : من منع شد الرحال إلى زيارة قبره الشريف - صلى الله عليه وسلم - . وغيره من قبور الصالحين . والله أعلم .
وقال السبكي الكبير : ليس في الأرض بقعة تفضل لذاتها حتى تشد إليها الرحال غير البلاد الثلاثة . ومرادي بالفضل : ما شهد الشرع باعتباره ، ورتب عليه حكما شرعيا . أما غيرها من البلاد ، فلا تشد إليها لذاتها ، بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات .
قال : وقد التبس ذلك على بعضهم ، فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع وهو خطأ ; لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه . فمعنى الحديث : لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان ، إلا إلى الثلاثة المذكورة . وشد الرحال إلى زيارة أو طلب ليس إلى المكان ، بل إلى من في ذلك المكان . والله أعلم . اهـ .
[ ص: 341 ] وبتأمل كلام ابن حجر ، نجده يتضمن إجراء معادلة على نص الحديث بأن له حالتين فقط :
الأولى : أن يقال : لا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة لخصوص الصلاة ، ولا تشد لغيرها من الأماكن لأجل الصلاة ، فيكون النهي منصبا على شد الرحال لأي مكان سوى المساجد الثلاثة ; من أجل أن يصلي فيما عداها . فيبقى غير الصلاة خارجا عن النهي ; فتشد له الرحال لأي مكان كان .
وغير الصلاة يشمل : طلب العلم ، والتجارة ، والنزهة ، والاعتبار ، والجهاد ، ونحو ذلك ، والنصوص في ذلك كله متضافرة .
ففي طلب العلم ما قدمنا من نصوص ، وقد رحل نبي الله موسى إلى الخضر ، كما قال تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ، إلى قوله : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، إلى قوله : قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا [ 18 \ 60 - 66 ] .
وفي السفر للتجارة قوله تعالى : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ 73 \ 20 ] . وقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [ 67 \ 15 ] ، وغيرها كثيرة .
والسفر للعبرة قوله تعالى : قل سيروا في الأرض فانظروا [ 27 \ 69 ] .
وقوله ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 136 - 138 ] .
وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ 22 \ 45 - 46 ] .
فقد أمر الله العباد بالسير ; ليعقلوا بقلوبهم حالة تلك القرى الخاوية ليتعظوا بأحوال أهلها .
[ ص: 342 ] فهذه نصوص جواز السفر لعدة أمور ، فيكون من ضمنها السفر لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه . حيث إن السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة بلا نزاع ، والحالة الثانية : أن يكون النهي عاما لجميع الأماكن في جميع الأمور ; فلا تشد الرحال قط إلا إلى ثلاثة المساجد وبلدانها الثلاثة . ولكن لا لخصوص الصلاة فقط ، بل لكل شيء مشروع بأصله مما قدمنا أنواعه من طلب العلم والتجارة والعظة والنزهة وغير ذلك : كصوم ، واعتكاف ، ومجاورة ، وحج ، وعمرة ، وصلة رحم ، ومشاهدة معالم تاريخية ونحو ذلك .
ومن هذا كله السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا شد الرحال إلى المدينة لكل شيء كان منها الزيارة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا معارضة على حالة من الحالتين ، ولا يتعارض معهما الحديث المذكور ، على أي تقدير المستثنى منه في هذا الحديث .