قوله تعالى : وما خلق الذكر والأنثى   
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحث هذه المسألة ، وإيراد كل النصوص في عدة مواضع ، أشار إليها كلها في سورة " النجم " عند قوله تعالى : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى    [ 53 \ 45 - 46 ] ، وقد قرئت بعدة قراءات منها : خلق الذكر والأنثى  ، ومنها " والذكر والأنثى " . 
وذكرها ابن كثير  مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح  البخاري  ومسلم  ، وعلى القراءة المشهورة . 
وما خلق الذكر والأنثى  ، اختلف في لفظة : " ما " فقيل : إنها مصدرية ، أي : وخلق الذكر والأنثى . 
وقيل : بمعنى من ، أي : والذي خلق الذكر والأنثى . فعلى الأول يكون القسم   [ ص: 545 ] بصفة من صفات الله - وهي صفة الخلق ، ويكون خص الذكر والأنثى ; لما فيهما من بديع صنع الله وقوة قدرته سبحانه على ما يأتي . 
وعلى قراءة : " والذكر والأنثى " . يكون القسم بالمخلوق كالليل والنهار ، لما في الخلق من قدرة الخالق أيضا ، وعلى أنها بمعنى الذي يكون القسم بالخالق سبحانه ، وتكون ما هنا مثل ما في قوله : والسماء وما بناها    [ 91 \ 5 ] ، وغاية ما فيه استعمالها وهي في الأصل لغير أولي العلم ، إلا أنها لوحظ فيها معنى الصفة ، وهي صفة الخلق أو على ما تستعمله العرب عند القرينة ، كقوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم    [ 4 \ 22 ] ، وقوله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء    [ 4 \ 3 ] ، لما لوحظ فيه معنى الصفة وهو الاستمتاع ; ساغ استعمال ما بدلا عن من . 
وفي اختصاص خلق الذكر والأنثى في هذا المقام لفت نظر إلى هذه الصفة ، لما فيها من إعجاز البشر عنها ، كما في الليل والنهار من الإعجاز للبشر : من أن يقدروا على شيء في خصوصه ، كما قدمنا في السورة قبلها . 
وذلك : أن أصل التذكير والتأنيث أمر فوق إدراك وقوى البشر ، وهي كالآتي : 
أولا : في الحيوانات الثديية ، وهي ذوات الرحم تحمل وتلد ، فإنها تنتج عن طريق اتصال الذكور بالإناث . وتذكير الجنين أو تأنيثه ليس لأبويه دخل فيه ، إنه من نطفة أمشاج ، أي : أخلاط من ماء الأب والأم ، وجعل هذا ذكرا وذاك أنثى ، فهو هبة من الله كما في قوله : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير    [ 42 \ 49 - 50 ] . 
وقد ثبت علميا أن سبب التذكير والتأنيث من جانب الرجل  ، أي : أن ماء المرأة صالح لهذا وذاك ، وماء الرجل هو الذي به يكون التمييز ; لانقسام يقع فيه . فالمرأة لا تعدو أن تكون حرثا ، والرجل هو الزارع ، ونوع الزرع يكون عن طريقه ، كما أشارت إليه الآية الكريمة : نساؤكم حرث لكم    [ 2 \ 223 ] ، والحرث لا يتصرف في الزرع ، وإنما التصرف عن طريق الحارث . 
ويتم ذلك عن طريق مبدأ معلوم علميا ، وهو أن خلية التلقيح في الأنثى دائما وأبدا   [ ص: 546 ] مكونة من ثمانية وأربعين جزءا ، وهي دائما وأبدا تنقسم إلى قسمين متساويين : أربعة وعشرين ، فيلتحم قسم منها مع قسم خلية الذكر ، وخلية الذكر سبعة وأربعون ، وإنما أبدا تنقسم أيضا عند التلقيح إلى قسمين ، ولكن أحدهما أربعة وعشرون ، والآخر ثلاثة وعشرون ، فإذا أراد الله تذكير الحمل سبق القسم الذي من ثلاثة وعشرين . فيندمج مع قسيم خلية الأنثى ، وهو أربعة وعشرون ، فيكون مجموعهما سبعة وأربعين ، فيكون الذكر بإذن الله . 
وإذا أراد الله تأنيث الحمل سبق القسم الذي هو أربعة وعشرون من الرجل ، فيندمج مع قسيم خلية المرأة أربعة وعشرين ، فيكون من مجموعهما ثمانية وأربعون ، فتكون الأنثى بإذن الله ، وهكذا في جميع الحيوانات . 
أما النباتات  فإن بعض الأشجار تتميز فيه الذكور من الإناث ، كالنخل ، والتوت مثلا ، وبقية الأشجار تكون الشجرة الواحدة تحمل زهرة الذكورة وزهرة الأنوثة ، فتلقح الرياح بعضها من بعض . 
وقد حدثني عدة أشخاص عن غريبتين في ذلك : 
إحداهما : أن نخلة موجودة حتى الآن ، في بعض السنين فحلا يؤخذ منه ليؤبر النخيل ، وفي بعض السنين نخلة تطلع وتثمر . 
وحدثني آخر في نفس المجلس : من أنه توجد عندهم شجرة نخل يكون أحد شقيها فحلا ; يؤخذ منه الطلع يلقح به النخل ، وشقها الآخر نخلة يتلقح من الشق الآخر لمجاورته . 
كما حدثني ثالث : أن والده قطع بعض فحل النخل ; لكثرته في النخيل ، وبعد قطعه نبت في أصله ومن جذعه وجذوره نخلة تثمر . وكل ذلك على خلاف العادة ، ولكنه دال على قدرة الله تعالى ، وأنه خالق الذكر والأنثى . 
أما عمل هذا الجهاز في الحيوانات ، بل وفي الحشرات الدقيقة وتكاثرها ، فهو فوق الحصر والحد . 
وقد ذكروا في عالم الحشرات  ، ما يلقح نفسه بنفسه ، باحتكاك بعض فخذية ببعض ، وكل ذلك مما لا يعلمه ولا يقدر على إيجاده إلا الله سبحانه وتعالى ، مما لو   [ ص: 547 ] تأمله العاقل لوجد فيه كما أسلفنا القدرة الباهرة ، أعظم مما في الليل إذا يغشى وما في النهار إذا تجلى ، ولا سيما إذا صغر الكائن : كالبعوضة فما دونها مما لا يكاد يرى بالعين ، ومع ذلك فإن فيه الذكورة والأنوثة . سبحانك اللهم ما أعظم شأنك . 
				
						
						
