قوله تعالى : فلهم أجر غير ممنون     . 
أي : غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم . 
وعلى الأول : فالأجر هو الثواب ، إما بدوام أعمالهم لكمال عقولهم ، وإما بأن الله يأمر الملائكة أن تكتب لهم من الأجر ما كانوا يعملونه في حال قوتهم من صيام وقيام ، وتصدق من كسبهم ونحو ذلك ، للأحاديث في حق المريض والمسافر ، فيظل ثواب أعمالهم مستمرا عليهم غير مقطوع . 
وعلى الثاني : فيكون الأجر هو النعيم في الجنة يعطونه ولا يمن به عليهم ، ولا يقطع عنهم كما قال تعالى :أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا    [ 13 \ 35 ] . 
تنبيه 
وهنا وجهة نظر من وجهين : وجه خاص وآخر عام . 
 [ ص: 9 ] أما الخاص : فإن كلمة رددناه ، فالرد يشعر إلى رد لأمر سابق ، والأمر السابق هو خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وأحسن تقويم شامل لشكله ومعناه ، أي جسمه وإنسانيته ، فرده إلى أسفل سافلين ، يكون بعدم الإيمان كالحيوان بل هو في تلك الحالة أسفل دركا من الحيوان ، وأشرس نفسا من الوحش ، فلا إيمان يحكمه ولا إنسانية تهذبه ، فيكون طاغية جبارا يعيث في الأرض فسادا ، وعليه يكون الاستثناء إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات  فبإيمانهم وعملهم الصالحات يترفعون عن السفالة ، ويرتفعون إلى الأعلى فلهم أجر غير ممنون . 
والوجهة العامة وهي الشاملة لموضوع السورة من أولها ابتداء من التين والزيتون وما معه في القسم إلى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم  ثم رددناه أسفل سافلين  إلا الذين آمنوا  الآية [ 95 \ 4 - 6 ] . 
فإنه إن صح ما جاء في قصة آدم  في قوله : فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة    [ 20 \ 121 ] . روى المفسرون أن آدم  لما بدت له سوأته ذهب إلى أشجار الجنة ليأخذ من الورق ليستر نفسه ، وكلما جاء شجرة زجرته ولم تعطه ، حتى مر بشجرة التين فأعطته ، فأخلفها الله الثمرة مرتين في السنة ، وكافأها بجعل ثمرتها باطنها كظاهرها لا قشر لها ولا عجم . 
وقد روى الشوكاني  في أنها شجرة التين التي أخذ منها الورق . فقال : وأخرج  ابن أبي حاتم  عن  ابن عباس  قال : " لما أسكن الله آدم  الجنة كساه سربالا من الظفر ، فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه   " . 
قال : وأخرج  الفريابي   وعبد بن حميد   وابن جرير  وابن المنذر   وابن أبي حاتم  وأبو الشيخ  وابن مردويه  والبيهقي   وابن عساكر  عن  ابن عباس  قال : " كان لباس آدم  وحواء  كالظفر - وذكر الأثر - وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة    " قال : ينزعان ورق التين ، فيجعلانه على سوآتهما   . 
وبهذا النقل يكون ذكر التين هنا مع خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رده أسفل سافلين إلا الذين آمنوا سر لطيف جدا ، وهو إشعار الإنسان الآن ، أن جنس الإنسان كله بالإنسان الأول أبي البشر ، وقد خلقه الله في أحسن حالة حسا ومعنى ، حتى رفعه إلى   [ ص: 10 ] منزلة إسجاد الملائكة له وسكناه الجنة ، فهي أعلى منزلة التكريم ، وله فيها أنه لا يجوع ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى ، وظل كذلك على ذلك إلى أن أغواه الشيطان ونسي عهد ربه إليه ، ووقع فيما وقع فيه وكان له ما كان ، فدلاهما بغرور وانتقلا من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ، فنزل إلى الأرض يحرث ويزرع ويحصد ويطحن ويعجن ويخبز ، حتى يجد لقمة العيش ، فهذا خلق الإنسان في أحسن تقويم ورده أسفل سافلين . 
وهذا شأن أهل الأرض جميعا ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون  برجوعهم إلى الجنة كما رجع إليها آدم  بالتوبة فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه    [ 2 \ 37 ] ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى    [ 20 \ 122 ] . 
وإن في ذكر البلد الأمين لترشيح لهذا المعنى ; لأن الله جعل الحرم لأهل مكة   أمنا كصورة الآمن في الجنة ، فإن امتثلوا وأطاعوا نعموا بهذا الأمن ، وإن تمردوا وعصوا ، فيخرجون منها ويحرمون أمنها . 
وهكذا تكون السورة ربطا بين الماضي والحاضر ، وانطلاقا من الحاضر إلى المستقبل ، فما يكذبك بعد بالدين  أليس الله بأحكم الحاكمين    [ 95 \ 7 - 8 ] . فيما فعل بآدم  وفيما يفعل بأولئك ، حيث أنعم عليهم بالأمن والعيش الرغد ، وإرسالك إليهم وفيما يفعل لمن آمن أو بمن يكفر ، اللهم بلى . 
				
						
						
