والمراد بالدين في الآيات : طاعة الله بامتثال جميع الأوامر ، واجتناب جميع النواهي . ومن الدين بمعنى الطاعة : قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
وأيام لنا غر كرام عصينا الملك فيها أن ندينا
أي : عصيناه وامتنعنا أن ندين له ، أي : نطيعه . وقوله واصبا [ 16 \ 52 ] ، أي : دائما ، أي : له - جل وعلا - : الطاعة والذل والخضوع دائما ; لأنه لا يضعف سلطانه ، ولا يعزل عن سلطانه ، ولا يموت ولا يغلب ، ولا يتغير له حال بخلاف ملوك الدنيا ; فإن الواحد منهم يكون مطاعا له السلطنة والحكم ، والناس يخافونه ويطمعون فيما عنده برهة من الزمن ، ثم يعزل أو يموت ، أو يذل بعد عز ، ويتضع بعد رفعة ; فيبقى لا طاعة له ولا يعبأ به أحد ، فسبحان من لم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا .
وهذا المعنى الذي أشار إليه مفهوم الآية بينه - جل وعلا - في مواضع أخر ; كقوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء [ 3 \ 26 ] ، وقوله تعالى : خافضة رافعة [ 56 \ 3 ] ; لأنها ترفع أقواما كانت منزلتهم منخفضة في الدنيا ، وتخفض أقواما كانوا ملوكا في الدنيا ، لهم المكانة الرفيعة ، وقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .
ونظير هذه الآية المذكورة قوله : ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب [ 37 \ 8 - 9 ] ، أي : دائم . وقيل : عذاب موجع مؤلم ، والعرب تطلق الوصب على المرض ، وتطلق الوصوب على الدوام . وروي عن : أنه لما سأله ابن عباس نافع بن الأزرق عن قوله تعالى : وله الدين واصبا [ 16 \ 52 ] ، قال له : الواصب : الدائم ، واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت الثقفي : [ ص: 384 ]
وله الدين واصبا وله الملك وحمد له على كل حال
ومنه قول الدؤلي :
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وممن قال : بأن معنى الواصب في هذه الآية الدائم : ، ابن عباس ومجاهد ، وعكرمة ، ، وميمون بن مهران والسدي ، وقتادة ، والحسن ، والضحاك ، وغيرهم . وروي عن أيضا " واصبا " : أي : واجبا . وعن ابن عباس مجاهد أيضا : " واصبا " : أي : خالصا . وعلى قول مجاهد هذا ، فالخبر بمعنى الإنشاء ; أي : ارهبوا أن تشركوا بي شيئا ، وأخلصوا لي الطاعة - وعليه فالآية كقوله : أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون [ 3 \ 83 ] ، وقوله : ألا لله الدين الخالص [ 39 \ 3 ] ، وقوله : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، وقوله : " واصبا " [ 16 \ 52 ] ، حال عمل فيه الظرف .
وقوله تعالى : أفغير الله تتقون ، أنكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة على من يتقي غيره ; لأنه لا ينبغي أن يتقى إلا من بيده النفع كله والضر كله ; لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك ، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك .
وقد أشار تعالى هنا إلى أن إنكار اتقاء غير الله ; لأجل أن الله هو الذي يرجى منه النفع ، ويخشى منه الضر ، ولذلك أتبع قوله : أفغير الله تتقون [ 16 \ 52 ] ، بقوله : وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ 16 \ 53 ] ، ومعنى " تجأرون " : ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة عند نزول الشدائد ; ومنه قول الأعشى أو النابغة يصف بقرة :
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا
وقول الأعشى :
يراوح من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا
ومنه قوله تعالى : حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون [ 23 \ 64 - 65 ] ، وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء [ ص: 385 ] قدير [ 6 \ 17 ] ، وقوله : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده الآية [ 10 \ 107 ] ، وقوله : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده الآية [ 35 \ 2 ] ، وقوله : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا الآية [ 9 \ 51 ] ، وقوله : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته الآية [ 39 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " . وفي حديث اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد المشهور : " ابن عباس " . واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف