وأوضح - جل وعلا - هذه المعاني المذكورة في هذه الآيات في مواضع أخر ، فبين أن [ ص: 388 ] جعلهم الإناث لله ، أو الذكور لأنفسهم قسمة غير عادلة ، وأنها من أعظم الباطل .
وبين أنه لو كان متخذا ولدا - سبحانه وتعالى - عن ذلك ! ; لاصطفى أحسن النصيبين ، ووبخهم على أن جعلوا له أخس الولدين ، وبين كذبهم في ذلك ، وشدة عظم ما نسبوه إليه . كل هذا ذكره في مواضع متعددة ; كقوله : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 ] ، وقوله : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف [ 37 \ 151 - 154 ] ، وقوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، وقوله : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين [ 43 \ 16 ] ، وقوله : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار [ 39 \ 4 ] ، وقوله : أم له البنات ولكم البنون [ 52 \ 39 ] ، وقال - جل وعلا - : ويجعلون لله ما يكرهون [ 16 \ 62 ] ، وقال : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ، وقال : وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 43 \ 17 ] .
وبين شدة عظم هذا الافتراء ، بقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 88 - 93 ] ، وقوله : إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية : ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] ، مبتدأ وخبر . وذكر الزمخشري وغيرهما : أنه يجوز أن تكون " ما " [ 16 \ 59 ] في محل نصب عطفا على " البنات " [ 16 \ 57 ] ، أي : ويجعلون لله البنات ، ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون . أورد إعرابه بالنصب الزجاج ، وقال : العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم ; قاله والفراء القرطبي . وقال أبو حيان " في البحر المحيط " : قال : ويجوز في " ما " في " ما يشتهون " الرفع على الابتداء ، والنصب على أن يكون معطوفا على " البنات " ، أي : وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور . انتهى . وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الزمخشري الفراء والحوفي وقال أبو البقاء وقد حكاه : وفيه نظر . وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو [ ص: 389 ] وهي : أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدى إلى ضميره المتصل المنصوب .
; فلا يجوز : زيد ضربه ، أي : زيدا . تريد ضرب نفسه ، إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية ، أو فقد وعدم ; فيجوز : زيد ظنه قائما ، وزيد فقده ، وزيد عدمه . والضمير المجرور بالحرف كالمنصوب المتصل ; فلا يجوز : زيد غضب عليه ، تريد غضب على نفسه . فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب ; إذ يكون التقدير : ويجعلون لهم ما يشتهون . فالواو ضمير مرفوع " ولهم " [ 16 \ 57 ] مجرور باللام . فهو نظير : زيد غضب عليه . اه . والبشارة تطلق في العربية على الخبر بما يسر ، وبما يسوء . ومن إطلاقها على الخبر بما يسوء قوله هنا : وإذا بشر أحدهم بالأنثى الآية [ 16 \ 58 ] ، ونظيره قوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم [ 53 \ 21 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم ; ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء قال :
إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وذود عشر أحب أصهاري إلي القبر
ويروى قوله : لعبد الله بن طاهر
لكل أبي بنت يراعى شؤونها ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها وقبر يواريها وخيرهم القبر
وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن ، وشدة كراهيتهم لولادتهن : الخوف من العار ، وتزوج غير الأكفاء ، وأن تهان بناتهم بعد موتهم ; كما قال الشاعر في ابنة له تسمى مودة :
مودة تهوى عمر شيخ يسره لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده ولا ختن يرجى أود من القبر