[ ص: 444 ] قوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين المتوكلين على الله ، وأن سلطانه إنما هو على أتباعه الذين يتولونه ، والذين هم به مشركون .
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، وقوله : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 39 - 40 ] ، وقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا [ 17 \ 65 ] ، وقوله : وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك الآية [ 34 \ 21 ] ، وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 \ 22 ] .
واختلف العلماء في معنى السلطان في هذه الآية .
فقال أكثر أهل العلم : هو الحجة ، أي : ليس للشيطان عليهم حجة فيما يدعوهم إليه من عبادة الأوثان .
وقال بعضهم : ليس له سلطان عليهم ، أي : تسلط وقدرة على أن يوقعهم في ذنب لا توبة منه . وقد قدمنا هذا ، والمراد : ب : الذين يتولونه [ 16 \ 100 ] ، الذين يطيعونه فيوالونه بالطاعة .
وأظهر الأقوال في قوله : هم به مشركون [ 16 \ 100 ] ، أن الضمير عائد إلى الشيطان لا إلى الله . ومعنى كونهم مشركين به هو طاعتهم له في الكفر والمعاصي ; كما يدل عليه قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين [ 36 \ 60 ] ، وقوله عن إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان [ 19 \ 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وأما سلطانه على الذين يتولونه فهو ما جعلوه له على أنفسهم من الطاعة والاتباع والموالاة ، بغير موجب يستوجب ذلك .
تنبيه .
فإنه قيل : أثبت الله للشيطان سلطانا على أوليائه في آيات ; كقوله هنا : إنما سلطانه [ ص: 445 ] على الذين يتولونه . . . الآية [ 16 \ 100 ] ، وقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، فالاستثناء يدل على أن له سلطانا على من اتبعه من الغاوين ; مع أنه نفى عنه السلطان عليهم في آيات أخر ; كقوله : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 20 - 21 ] .
وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 114 \ 22 ] .
فالجواب هو : أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه ، وذلك من وجهين :
الأول : أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه ، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة ، فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها ، غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان . وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن .
الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعاته ودخولهم في حزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوة ; لأن الله يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ 4 \ 76 ] ، وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم .
ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم - رحمه الله - ، وقد بينا هذا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) .