ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين ، وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية : قوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [ 58 \ 22 ] ، إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر ، وقوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض الآية [ 9 \ 71 ] ، وقوله : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم [ 49 \ 10 ] ، وقوله : فأصبحتم بنعمته إخوانا الآية [ 3 \ 103 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن لا يجوز ، ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين . النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية
ومن أصرح الأدلة في ذلك : ما رواه في صحيحه قال : باب قوله تعالى : البخاري يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون [ 63 \ 8 ] ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان قال : حفظناه من ، قال : سمعت عمرو بن دينار رضي الله عنهما يقول : جابر بن عبد الله المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ! وقال [ ص: 43 ] المهاجري : يا للمهاجرين ! فسمعها الله رسوله قال : " ما هذا " ؟ فقالوا : كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها منتنة " الحديث . فقول هذا الأنصاري : يا للأنصار ، وهذا المهاجري : يا للمهاجرين هو النداء بالقومية العصبية بعينه ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " كنا في غزاة فكسع رجل من " يقتضي وجوب ترك النداء بها ; لأن قوله : " دعوها " أمر صريح بتركها ، دعوها فإنها منتنة على التحقيق كما تقرر في الأصول ; لأن الله يقول : والأمر المطلق يقتضي الوجوب فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] ، ويقول لإبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] فدل على أن مخالفة الأمر معصية . وقال تعالى عن نبيه موسى في خطابه لأخيه : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] ، فأطلق اسم المعصية على مخالفة الأمر : وقال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فدلت الآية على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مانع من الاختيار ، موجب للامتثال ، لا سيما وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بالترك بقوله : " فإنها منتنة " ، وحسبك بالنتن موجبا للتباعد لدلالته على الخبث البالغ .
فدل هذا الحديث الصحيح على أن النداء برابطة القومية مخالف لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن فاعله يتعاطى المنتن ، ولا شك أن المنتن خبيث ، والله تعالى يقول : الخبيثات للخبيثين الآية [ 24 \ 26 ] ، ويقول : ويحرم عليهم الخبائث [ 7 \ 157 ] وحديث جابر هذا الذي قدمناه عن أخرجه أيضا البخاري مسلم في صحيحه قال رحمه الله : حدثنا ، أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب وأحمد بن عبدة الضبي ، وابن أبي عمر ، واللفظ ، قال لابن أبي شيبة ابن عبدة : أخبرنا ، وقال الآخرون : حدثنا قال : سمع سفيان بن عيينة عمرو يقول : جابر بن عبد الله المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ! وقال المهاجري : يا للمهاجرين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بال دعوى الجاهلية ! " قالوا : يا رسول الله ، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار . فقال : " دعوها فإنها منتنة . " الحديث . كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ، فكسع رجل من
وقد عرفت وجه دلالة هذا الحديث على التحريم ، مع أن في بعض رواياته الثابتة في الصحيح التصريح بأن دعوى الرجل : " يا لبني فلان " من . وإذا صح بذلك [ ص: 44 ] أنها من دعوى الجاهلية فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " دعوى الجاهلية " . وفي رواية في الصحيح : " ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية " ، وذلك صريح في أن من دعا تلك الدعوى ليس منا ، وهو دليل واضح على التحريم الشديد ، ومما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من ضرب الخدود ، أو شق الجيوب ، أو دعا بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية " هذا حديث صحيح ، أخرجه الإمام أحمد من طرق متعددة عن عتي بن ضمرة السعدي ، عن رضي الله عنه ، وذكره صاحب الجامع الصغير بلفظ " أبي بن كعب " وأشار لأنه أخرجه إذا سمعتم من يعتزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا أحمد في المسند ، والنسائي ، وابن حبان في الكبير ، والطبراني عن أبي رضي الله عنه ، وجعل عليه علامة الصحة . وذكره أيضا صاحب الجامع الصغير بلفظ " إذا رأيتم الرجل يتعزى . . " إلخ ، وأشار إلى أنه أخرجه الإمام والضياء المقدسي أحمد في المسند ، وجعل عليه علامة الصحة . وقال شارحه والترمذي المناوي : ورواه عنه أيضا ، قال الطبراني الهيثمي : ورجاله ثقات ، وقال شارحه العزيزي : هو حديث صحيح . وقال فيه الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني في كتابه ( كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ) قال النجم : رواه أحمد والنسائي عن وابن حبان رضي الله عنه . ومراده بالنجم : الشيخ أبي بن كعب محمد نجم الدين الغزي في كتابه المسمى ( إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن ) فانظر كيف سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك النداء " عزاء الجاهلية " وأمر أن يقال للداعي به " اعضض على هن أبيك " أي فرجه ، وأن يصرح له بذلك ولا يعبر عنه بالكناية ، فهذا يدل على شدة قبح هذا النداء ، وشدة بغض النبي صلى الله عليه وسلم له .
واعلم أن رؤساء الدعاة إلى نحو هذه القومية العربية : أبو جهل ، وأبو لهب ، والوليد بن المغيرة ، ونظراؤهم من رؤساء الكفرة .
وقد بين تعالى تعصبهم لقوميتهم في آيات كثيرة ; كقوله : قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا الآية [ 5 \ 104 ] وقوله : قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا الآية [ 2 \ 170 ] ، وأمثال ذلك من الآيات .
واعلم أنه لا خلاف بين العلماء - كما ذكرنا آنفا - في منع النداء برابطة غير الإسلام ، كالقوميات والعصبيات النسبية ، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية ، فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي : أنه نداء [ ص: 45 ] إلى التخلي عن دين الإسلام ، ورفض الرابطة السماوية رفضا باتا ، على الله أن يعتاص من ذلك روابط عصبية قومية ، مدارها على أن هذا من العرب ، وهذا منهم أيضا مثلا . فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفا من الإسلام ، واستبدالها به صفقة خاسرة ، فهي كما قال الراجز :
بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
وقد بين الله جل وعلا في محكم كتابه : أن الحكمة في جعله بني آدم شعوبا وقبائل هي التعارف فيما بينهم ، وليست هي أن يتعصب كل شعب على غيره ، وكل قبيلة على غيرها ، قال جل وعلا : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ 49 \ 13 ] ، فاللام في قوله : لتعارفوا لام التعليل ، والأصل لتتعارفوا ، وقد حذفت إحدى التاءين ; فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة لقوله : وجعلناكم شعوبا وقبائل [ 49 \ 13 ] ، ونحن حين نصرح بمنع النداء بالروابط العصبية والأواصر النسبية ، ونقيم الأدلة على منع ذلك ، لا ننكر أن المسلم ربما انتفع بروابط نسبية لا تمت إلى الإسلام بصلة ، كما نفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب ، وقد بين الله جل وعلا أن عطف ذلك العم الكافر على نبيه صلى الله عليه وسلم من منن الله عليه ، قال تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى [ 93 \ 6 ] ، أي آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب .
قول ومن آثار هذه العصبية النسبية أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
كما قدمنا في سورة هود .
وقد نفع الله بتلك العصبية النسبية شعيبا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، كما قال تعالى عن قومه : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك [ 11 \ 91 ] .
وقد نفع الله بها نبيه صالحا أيضا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ; كما أشار تعالى لذلك بقوله : قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون [ 27 \ 49 ] ، فقد دلت الآية على أنهم يخافون من أولياء صالح ، [ ص: 46 ] ولذلك لم يفكروا أن يفعلوا به سوءا إلا ليلا خفية . وقد عزموا أنهم إن فعلوا به ذلك أنكروا وحلفوا لأوليائه أنهم ما حضروا ما وقع بصالح خوفا منهم ، ولما كان لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا عصبة له في قومه ظهر فيه أثر ذلك حتى قال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [ 11 \ 80 ] ، وقد قدمنا هذا مستوفى في " سورة هود " .
فيلزم الناظر في هذه المسألة أن يفرق بين الأمرين ، ويعلم أن النداء بروابط القوميات لا يجوز على كل حال ، ولا سيما إذا كان القصد بذلك القضاء على رابطة الإسلام ، وإزالتها بالكلية بدعوى أنه لا يساير التطور الجديد ، أو أنه جمود وتأخر عن مسايرة ركب الحضارة - نعوذ بالله من طمس البصيرة - وأن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية والأواصر العصبية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ، كما وقع من أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " ولكن تلك القرابات النسبية لا يجوز أن تجعل هي الرابطة بين المجتمع ، لأنها تشمل المسلم والكافر ، ومعلوم أن المسلم عدو الكافر ، كما قال تعالى : إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الآية [ 58 \ 22 ] ، كما تقدم .
والحاصل أن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة " لا إله إلا الله " ألا ترى أن هذه الرابطة التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد ، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضا ، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف ، قال تعالى : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم [ 40 \ 7 - 9 ] . فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله ، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم ، إنما هي الإيمان بالله جل وعلا ; لأنه قال عن الملائكة : ويؤمنون به [ ص: 47 ] [ 40 \ 7 ] فوصفهم بالإيمان . وقال عن بني آدم في استغفار الملائكة لهم : ويستغفرون للذين آمنوا [ 40 \ 7 ] ، فوصفهم أيضا بالإيمان ، فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان ، وهو أعظم رابطة .
ومما يوضح لك أن الرابطة الحقيقية هي دين الإسلام قوله تعالى في أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم : سيصلى نارا ذات لهب [ 111 \ 3 ] ويقابل ذلك بما من الفضل والمكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه : " لسلمان الفارسي " ، رواه سلمان منا أهل البيت الطبراني والحاكم في المستدرك ، وجعل عليه صاحب الجامع الصغير علامة الصحة ، وضعفه الحافظ الذهبي ، وقال الهيثمي فيه ، عند الطبراني كثير بن عبد الله المزني ضعفه الجمهور ، وبقية رجاله ثقات . وقد أجاد من قال :
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
وقد أجمع العلماء : على أن ، أن إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام ، ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر ، والميراث دليل القرابة ، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية . الرجل إن مات وليس له من القرباء إلا ابن كافر
وبالجملة ، فلا خلاف بين المسلمين أن ، وتربط بين أهل الأرض والسماء ، هي رابطة " لا إله إلا الله " ، فلا يجوز البتة النداء برابطة غيرها . ومن والى الكفار بالروابط النسبية محبة لهم ، ورغبة فيهم يدخل في قوله تعالى : الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم [ 5 \ 51 ] ، وقوله تعالى : إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [ 8 \ 73 ] ، والعلم عند الله تعالى .
وبالجملة ، ثلاثة : فالمصالح التي عليها مدار الشرائع
الأولى : درء المفاسد المعروف عند أهل الأصول بالضروريات .
والثانية : جلب المصالح ، المعروف عند أهل الأصول بالحاجيات .
والثالثة : الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات ، المعروف عند أهل الأصول بالتحسينيات والتتميمات . وكل هذه المصالح الثلاث هدى فيها القرآن العظيم للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها .
فالضروريات التي هي درء المفاسد إنما هي درؤها عن ستة أشياء :
[ ص: 48 ] الأول : ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها ، كما قال تعالى : الدين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] ، وفي سورة الأنفال : ويكون الدين كله لله [ الآية 39 ] ، وقال تعالى : تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 \ 16 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " " الحديث ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " إلى غير ذلك من الأدلة على المحافظة على الدين . من بدل دينه فاقتلوه
والثاني : ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها بأقوم الطرق وأعدلها ، ولذلك أوجب القصاص درءا للمفسدة عن الأنفس ، كما قال تعالى : النفس ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب الآية [ 2 \ 179 ] ، وقال : كتب عليكم القصاص في القتلى الآية [ 2 \ 178 ] ، وقال : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا الآية [ 17 \ 33 ] .
الثالث : ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها ، قال تعالى : العقل ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه - إلى قوله - فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 ، 91 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " " وقال : " كل مسكر حرام " ، كما قدمنا ذلك مستوفى " في سورة النحل " ، وللمحافظة على العقل أوجب صلى الله عليه وسلم حد الشارب درءا للمفسدة عن العقل . ما أسكر كثيره فقليله حرام
الرابع : ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها ، ولذلك حرم الزنى وأوجب فيه الحد الرادع ، وأوجب العدة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت ، لئلا يختلط ماء رجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على الأنساب ; قال تعالى : النسب ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وقال تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة الآية [ 24 \ 2 ] ، وقد قدمنا آية الرجم والأدلة الدالة على أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم ، وقال تعالى في إيجاب العدة حفظا للأنساب : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الآية [ 2 \ 228 ] ، وقال : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ 2 \ 234 ] وإن كانت عدة الوفاة فيها شبه تعبد لوجوبها مع عدم الخلوة بين الزوجين .
ولأجل المحافظة على النسب منع سقي زرع الرجل بماء غيره ; فمنع نكاح الحامل حتى تضع ، قال تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] .
الخامس : ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها ، فنهى [ ص: 49 ] المسلم عن أن يتكلم في أخيه بما يؤذيه ، وأوجب عليه إن رماه بفرية حد القذف ثمانين جلدة ، قال تعالى : العرض ولا يغتب بعضكم بعضا [ 49 \ 12 ] ، وقبح جل وعلا غيبة المسلم غاية التقبيح بقوله : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه [ 49 \ 12 ] ، وقال : ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون [ 49 \ 11 ] وقال في إيجاب حد القاذف : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا الآية [ 24 \ 4 ، 5 ] .
السادس : ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها ، ولذلك منع أخذه بغير حق شرعي ، وأوجب على السارق حد السرقة وهو قطع اليد كما تقدم ، قال تعالى : المال ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] ، وقال تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون [ 2 \ 188 ] ، وقال : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله الآية [ 5 \ 38 ] ، وكل ذلك محافظة على المال ودرءا للمفسدة عنه .
المصلحة الثانية : جلب المصالح ، وقد جاء القرآن بجلب المصالح بأقوم الطرق وأعدلها ، ففتح الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين ، قال تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ 62 \ 10 ] ، وقال : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ 2 \ 198 ] ، وقال : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ 73 \ 20 ] ، وقال : بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] .
ولأجل هذا جاء الشرع الكريم بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع ، ليستجلب كل مصلحته من الآخر ، كالبيوع والإجارات والأكرية والمساقاة والمضاربة ، وما جرى مجرى ذلك .
المصلحة الثالثة : الجري على ، وقد جاء القرآن بذلك بأقوم الطرق وأعدلها ، والحض على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كثير جدا في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولذلك لما مكارم الأخلاق ومحاسن العادات عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت : " كان خلقه القرآن " لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق ; لأن الله تعالى يقول [ ص: 50 ] في نبيه صلى الله عليه وسلم : سئلت وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] .
فدل مجموع الآية وحديث عائشة على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق : أنه يكون على خلق عظيم ، وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق ، وسنذكر لك بعضا من ذلك تنبيها به على غيره .
فمن ذلك قوله تعالى : وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم الآية [ 2 \ 237 ] .
فانظر ما في هذه الآية من من الأمر بالعفو والنهي عن نسيان الفضل ، وقال تعالى : الحض على مكارم الأخلاق ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا الآية [ 5 \ 2 ] ، وقال تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 \ 8 ] . فانظر ما في هذه الآيات من مكارم الأخلاق ، والأمر بأن تعامل من عصى الله فيك بأن تطيعه فيه . وقال تعالى : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] فانظر إلى هذا من مكارم الأخلاق ، والأمر بالإحسان إلى المحتاجين والضعفاء ، وقال تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [ 16 \ 90 ] ، وقال تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] ، وقال : ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن [ 6 \ 151 ] ، وقال تعالى : وإذا مروا باللغو مروا كراما [ 25 \ 72 ] ، وقال تعالى : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق ، ومحاسن العادات .