الأول : وهو الصواب الذي يشهد له القرآن ، وعليه جمهور العلماء أن الأمر في قوله : أمرنا هو الأمر الذي هو ضد النهي ، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره ، والمعنى : أمرنا مترفيها بطاعة الله وتوحيده ، وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوا به : ففسقوا ، أي : خرجوا عن طاعة أمر ربهم ، وعصوه وكذبوا رسله فحق عليها القول ، أي وجب عليها الوعيد فدمرناها تدميرا ، أي أهلكناها إهلاكا مستأصلا ، وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم .
وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة ; كقوله : وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء الآية [ 7 \ 28 ] . فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله : أمرنا مترفيها ففسقوا [ 17 \ 16 ] ، أي : أمرناهم بالطاعة فعصوا ، وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا ; لأن الله لا يأمر بالفحشاء .
ومن الآيات الدالة على هذا قوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 34 ، 35 ] .
فقوله في هذه الآية : وما أرسلنا في قرية من نذير الآية [ ص: 76 ] [ 43 \ 23 ] ، لفظ عام في جميع المترفين من جميع القرى أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم : إنا بما أرسلتم به كافرون ، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وبهذا التحقيق تعلم : أن ما زعمه في كشافه من أن معنى أمرنا مترفيها ; أي أمرناهم بالفسق ففسقوا ، وأن هذا مجاز تنزيلا لإسباغ النعم عليهم الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك ، كلام كله ظاهر السقوط والبطلان ، وقد أوضح إبطاله الزمخشري أبو حيان في " البحر " ، والرازي في تفسيره ، مع أنه لا يشك منصف عارف في بطلانه .
وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف ، من قولهم : أمرته فعصاني ، أي أمرته بالطاعة فعصى . وليس المعنى : أمرته بالعصيان كما لا يخفى .
القول الثاني في الآية : هو أن الأمر في قوله : أمرنا مترفيها أمرا كونيا قدريا ، أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له ; لأن كلا ميسر لما خلق له . والأمر الكوني القدري كقوله : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [ 54 \ 50 ] ، وقوله : فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 2 \ 65 ] ، وقوله : أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [ 10 \ 24 ] ، وقوله : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] .
القول الثالث في الآية : أن " أمرنا " بمعنى أكثرنا ، أي أكثرنا مترفيها ففسقوا .
وقال أبو عبيدة : أمرنا بمعنى أكثرنا ، لغة فصيحة كآمرنا بالمد ، ويدل لذلك الحديث الذي أخرجه عن الإمام أحمد سويد بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " . خير مال امرئ مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة
قال ابن كثير : قال الإمام رحمه الله في كتابه ( الغريب ) : المأمورة : كثيرة النسل . والسكة : الطريقة المصطفة من النخل . والمأبورة : من التأبير ، وهو تعليق الذكر على النخلة لئلا يسقط ثمرها . ومعلوم أن إتيان المأمورة على وزن المفعول يدل على أن أمر بفتح الميم مجردا عن الزوائد ، متعد بنفسه إلى المفعول ، فيتضح كون أمره بمعنى أكثر ، وأنكر غير واحد تعدي أمر الثلاثي بمعنى الإكثار إلى المفعول ، وقالوا : حديث أبو عبيد القاسم بن سلام سويد بن هبيرة المذكور من قبيل الازدواج ، كقولهم : الغدايا والعشايا ، وكحديث " " ; لأن الغدايا لا يجوز ، وإنما ساغ [ ص: 77 ] للازدواج مع العشايا ، وكذلك مأزورات بالهمز فهو على غير الأصل ; لأن المادة من الوزر بالواو ، إلا أن الهمز في قوله : " مأزورات " للازدواج مع " مأجورات " ، والازدواج يجوز فيه ما لا يجوز في غيره كما هو معلوم . وعليه فقوله : " مأمورة " إتباع لقوله : " مأبورة " وإن كان مذكورا قبله للمناسبة بين اللفظين . ارجعن مأزورات غير مأجورات
وقال الشيخ أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قوله تعالى : أمرنا [ 17 \ 16 ] ، قرأ ، أبو عثمان النهدي وأبو رجاء ، وأبو العالية ، والربيع ، ومجاهد ، والحسن : " أمرنا " بالتشديد ، وهي قراءة علي رضي الله عنه ، أي سلطنا شرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم .
وقال " أمرنا " بتشديد الميم : جعلناهم أمراء مسلطين . أبو عثمان النهدي
وقاله ابن عزيز : وتأمر عليهم تسلط عليهم . وقرأ الحسن أيضا ، وقتادة ، وأبو حيوة الشامي ، ويعقوب ، وخارجة عن نافع ، ، عن وحماد بن سلمة ابن كثير وعلي باختلاف عنهما : " آمرنا " بالمد والتخفيف ; أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها ، قاله وابن عباس . الكسائي
وقال أبو عبيدة : " آمرته - بالمد - وأمرته لغتان بمعنى أكثرته .
ومنه الحديث " " ; أي كثيرة النتاج والنسل ، وكذلك قال خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة ابن عزيز : آمرنا وأمرنا بمعنى واحد ، أي أكثرنا . وعن الحسن أيضا ، : أمرنا - بالقصر وكسر الميم - على فعلنا ، ورويت عن ويحيى بن يعمر . قال ابن عباس قتادة والحسن : المعنى أكثرنا ، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد ، وأنكره وقال : لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد ، وأصلها أأمرنا فخفف ; حكاه الكسائي المهدوي .
وفي الصحاح : قال أبو الحسن : أمر ماله - بالكسر - أي كثر . وأمر القوم : أي كثروا ، قال الشاعر وهو الأعشى :
طرفون ولادون كل مبارك أمرون لا يرثون سهم القعدد
وآمر الله ماله ; بالمد . الثعلبي : ويقال للشيء الكثير أمر ، والفعل منه أمر القوم يأمرون أمرا : إذا كثروا .
قال : كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا : أمر أمر بني فلان ; قال [ ص: 78 ] ابن مسعود لبيد :
كل بني حرة مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للهلك والنكد
قلت : وفي حديث هرقل الحديث الصحيح : بني الأصفر ; أي كثر ، وكلها غير متعد ، ولذلك أنكره لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليخافه ملك ، والله أعلم . الكسائي
قال المهدوي : ومن قرأ أمر فهي لغة ، ووجه تعدية أمر أنه شبهه بـ ( عمر ) من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة ، فعدى كما عدى عمر ، إلى أن قال : وقيل أمرناهم جعلناهم أمراء ; لأن العرب تقول : أمير غير مأمور ، أي غير مؤمر ، وقيل معناه : بعثنا مستكبريها . قال هارون : وهي قراءة أبي : بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا فيها ، ذكره الماوردي .
وحكى النحاس : وقال هارون في قراءة أبي : وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول . اه محل الغرض من كلام القرطبي .
وقد علمت أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن معنى الآية : أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمرنا ، فوجب عليهم الوعيد فأهلكناهم كما تقدم إيضاحه .