وعلى هذا القول أن المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصة ، فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه ، ويطوف بالبيت ويسعى ، فيكون متحللا بعمرة ، وحجة هذا القول متركبة من أمرين : الأول : أن الآية الكريمة التي هي قوله تعالى : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) [ 2 \ 196 ] نزلت في صد المشركين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء .
وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص ، فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو ، الذي هو سبب نزولها قطعي ، فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه ، وروي عن مالك - رحمه الله - أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعيته ، وهو خلاف قول الجمهور وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظنا تصب
وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى ، وأنه نزل به القرآن العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز .
الأمر الثاني : ما ورد من الآثار في أن ، فمن ذلك ما رواه المحصر بمرض ونحوه لا يتحلل إلا بالطواف والسعي في " مسنده " الشافعي والبيهقي عن أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو . ابن عباس
[ ص: 78 ] قال النووي في " شرح المهذب " : إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وصححه أيضا ابن حجر ، ومن ذلك ما رواه البخاري ، عن والنسائي أنه كان يقول : " ابن عمر وبالصفا والمروة ، ثم يحل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا " ومن ذلك ما رواه أليس حسبكم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت ، مالك في " الموطأ " ، والبيهقي عن أنه قال : " المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ، ويسعى بين ابن عمر الصفا والمروة ، فإذا اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى " ومن ذلك ما رواه مالك في " الموطأ " والبيهقي أيضا عن ، عن رجل من أيوب السختياني أهل البصرة كان قديما أنه قال : خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي ، فأرسلت إلى مكة وبها ، عبد الله بن عباس ، والناس فلم يرخص لي أحد أن أحل ، فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة . والرجل البصري المذكور الذي أبهمه وعبد الله بن عمر مالك قال : هو ابن عبد البر شيخ أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أيوب ، ومعلمه كما رواه ، عن حماد بن زيد أيوب ، عن أبي قلابة ، ورواه من طرق ، وسمى الرجل ابن جرير . يزيد بن عبد الله بن الشخير
ومن ذلك ما رواه مالك في " الموطأ " والبيهقي أيضا عن : " أن سليمان بن يسار سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم ، فسأل على الماء الذي كان عليه عن العلماء ، فوجد عبد الله بن عمر ، ، وعبد الله بن الزبير ، فذكر لهم الذي عرض له فكلهم أمره أن يتداوى بما لا بد له منه ، ويفتدي فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه ، ثم عليه حج قابل ، ويهدي ما استيسر من الهدي " . ومروان بن الحكم
قال مالك : وعلى هذا الأمر عندنا ، وقد أمر فيمن أحصر بغير عدو عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا ، ثم يحجان عاما قابلا ويهديان ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله .
ومن ذلك ما رواه مالك في " الموطأ " والبيهقي أيضا عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقول : " المحرم لا يحله إلا البيت " والظاهر أنها تعني غير المحصر بعدو ، كما جزم به الزرقاني في " شرح الموطأ " هذا هو حاصل أدلة القول بأن المراد بالإحصار في الآية هو ما كان من خصوص العدو دون ما كان من مرض ونحوه .