ثم قال - تعالى - : ( إنا أرسلناك بالحق ) أي بالشيء الثابت الحقيقي الذي لا يضل من يأخذ به ، ولا تعبث به رياح الأباطيل والأوهام ، بل يكون الآخذ به سعيدا بالطمأنينة واليقين . قال الأستاذ الإمام : إن الحق في هذا المقام يشمل العلوم الاعتقادية وغيرها فهو يقول : إنا أرسلناك بالعقائد الحق المطابقة للواقع ، والشرائع الصحيحة الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة ، ( بشيرا ) لمن يتبع الحق بالسعادتين ، ( ونذيرا ) لمن لا يأخذ به بشقاء الدنيا وخزي الآخرة ( ولا تسئل عن أصحاب الجحيم ) أي فلا يضرك تكذيب المكذبين الذين يساقون بجحودهم إلى الجحيم ؛ لأنك لم تبعث ملزما لهم ولا جبارا عليهم ، فيعد عدم إيمانهم تقصيرا منك تسئل عنه ، بل بعثت معلما وهاديا بالبيان والدعوة وحسن الأسوة ، لا هاديا بالفعل ولا ملزما بالقوة ، ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) ( 2 : 272 ) وفي الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يضيق صدره ، كما تدل على ذلك آيات أخرى ، وفي الآية من العبرة أن الأنبياء بعثوا معلمين لا مسيطرين ، ولا متصرفين في الأنفس ولا مكرهين ، فإذا جاهدوا فإنما يجاهدون دفاعا عن الحق لا إكراها عليه ، وفيها أن الله - تعالى - لا يطالب الناس بأن يأخذوا عنهم إلا العلم الذي يهديهم إلى معرفة حقوق الله وحقوق العباد ، وفي قراءة نافع ويعقوب : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) بالنهي ، أي لا تسأل عما سيلاقون من الانتقام فإنه عظيم ، فمثل هذا النهي مستعمل في التهويل لا في حقيقته ، وهو استعمال معروف بين الناس حتى اليوم .
وزعم بعض المفسرين أن النهي على حقيقته ، وأنه خاص بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السؤال عن أبويه ، ورووا في ذلك أنه سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما ، فزارهما ودعا لهما وتمنى لو يعرف حالهما في الآخرة وقال : ( ( ليت شعري ما فعل أبواي ) ) ؟ فنزلت الآية [ ص: 365 ] في ذلك . والحديث قال الحافظ العراقي : إنه لم يقف عليه ، وقال السيوطي : لم يرد في ذلك إلا أثر معضل ضعيف الإسناد .
قال الأستاذ الإمام : وقد فشا هذا القول ، ولولا ذلك لم نذكره ، وإنما نريد بذكره التنبيه على أن الباطل صار يفشو في المسلمين بضعف العلم ، والصحيح يهجر وينسى . ولا شك أن مقام النبي - عليه الصلاة والسلام - في معرفة أسرار الدين وحكم الله في الأولين والآخرين ينافي صدور مثل هذا السؤال عنه ، كما أن أسلوب القرآن يأبى أن يكون هو المراد منه .