( قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن )
أقول : بعد أن أقام الله الحجة على أهل الكتاب وبين شئونهم في الكفر بالنبي الذي كانوا ينتظرونه لبشارة رسلهم به ، وشئونهم في التلاعب بدينهم وشئونهم مع المؤمنين ، بين في هذه الآيات وما بعدها ما يستند إليه الإسلام ونبي الإسلام من أصل ونسب يجله أهل الكتاب والعرب جميعا ، وهو ملة إبراهيم ونسبه ، فهو في هذا السياق يبين لأهل الكتاب - ولا سيما اليهود - المحتكرين للوحي في قومهم والمفضلين لأنفسهم على العرب بنسبهم أن هذا لو كان حجة لما قامت هذه [ ص: 372 ] الحجة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وقومه ، إذ الملة في الأصل واحدة والنسب واحد ، ولكنهم كفروا النعمتين بما تقدم ذكره من أعمالهم ، فجاء النبي الموعود به لإصلاح حالهم وحال غيرهم ، وسيأتي قوله - تعالى - في هذا السياق : ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) ( 2 : 146 ) وجرى شيخنا في الدرس على طيته في التناسب بين هذا السياق وما قبله فقال ما مثاله .
كان الكلام في أول السورة إلى هذه الآية بأسلوب واحد في سياق واحد ، ذكر حقية الكتاب وكونه من نصوع البرهان بحيث يدفع ريب المرتابين أن يدنو منه أو يتسامى إليه ، ثم ذكر أصناف الناس في أمر الإيمان به وعدم الإيمان به ، وأطال الحجاج والمناظرة في خطاب أهل الكتاب خاصة لما تقدم من أنهم كانوا موضع الرجاء في المبادرة إلى الإيمان بالنبي وما جاء به ؛ لأنه وافقهم في أهل الدين ، وصدق أنبياءهم وكتبهم وذكرهم بما نسوا ، وعلمهم ما جهلوا ، وأصلح لهم ما حرفوا وزادهم معرفة بأسرار الدين وحكمته ، كما أنهم في موضع الشبهة عند المشركين والمنافقين بما كفروا ، وفي موضع الحجة عليهم بما آمنوا ، قال - تعالى - في الاحتجاج على المشركين : ( أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) ( 26 : 197 ) وقد جاءت محاجة أهل الكتاب على طريقة الإطناب لما كانوا عليه من جمود القرائح والبعد عن البلاغة ، كما حكى عنهم أنهم قالوا : ( قلوبنا غلف ) ومن فساد الأذهان بالتعود على التأويل والتحريف ، فكان يبدأ لهم المعنى ويعاد ، ويساق إليهم القول بطرق بينة ، ويؤكد بضروب من التأكيد تبعد به عن قبول التأويل والتحويل ، وكان مما حجوا به التذكير بحال سلفهم الأنبياء وبحالهم معهم من عصيانهم وإيذائهم بل قتلهم في عهدهم ، والغرور بانتظار شفاعتهم ، والاستغناء بها من بعدهم .
ثم إن الكلام في هذه الآية ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه ) وما بعدها موجه إلى مشركي العرب ، ووجه الاتصال بينها وبين ما قبلها أن ذلك كان يتضمن الاحتجاج علىأهل الكتاب بسلفهم الصالح ، وهذا يتضمن الاحتجاج على مشركي قريش وأمثالهم بسلفهم الصالح ، فإنهم ينتسبون إلى إسماعيل وإبراهيم ويفتخرون بأنهما بنيا لهم الكعبة معبدهم الأكبر ، وكانوا في عهد التنزيل قد اختلطوا بالأمم المجاورة التي تعرف لهم هذا النسب .
وإنك لترى الكلام هنا جاريا على طريقة الإيجاز والإشارة لما كان عليه العرب من حدة الفكر وصفاء الأذهان ودقة الفهم ورقة الوجدان ، على أن هذه الآيات تصلح حجة على الفريقين ؛ لأن أهل الكتاب كافة يجلون إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ويعتقدون نبوته ، والإسرائيليون منهم ينتسبون إليه ، ولكن الخطاب في قصته موجه إلى العرب أولا بالذات ، فتلك حجج القرآن على أهل الكتاب الذي جاء لإصلاح دينهم وترقيتهم فيه ، ودين الله واحد في جوهره ، وهذه حججه على أهل الشرك والوثنية الخاصة التي جاء لمحوها من الأرض وإثبات نقيضها ، وهو التوحيد والتنزيه [ ص: 373 ] وإثبات البعث والنشور ، وقد أقام الحجج على هذين الأصلين من الطرق العقلية والكونية في مواضع كثيرة ولا سيما في السور المكية .
قال تبارك اسمه : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) ، أقول : أشهر الأقوال وأظهرها في متعلق " إذ " هنا قولان :
( 1 ) أنه مقدر معلوم من السياق ومن أمثاله وهو " اذكر " إذا جعل الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - أي " واذكر " لأهل الكتاب ولقومك وغيرهم ( إذ ابتلى إبراهيم ربه ) . . . إلخ ، وإذا جعل الخطاب للمكلفين ( واذكروا ) وتقدم نظيره في خطاب بني إسرائيل .
( 2 ) أنه متعلق بقوله : ( قال إني جاعلك للناس إماما ) ، والكلمات جمع كلمة وتطلق على اللفظ المفرد وعلى الجمل المفيدة من الكلام . والمراد منها هنا مضمونها من أمر ونهي ، روى عكرمة عن قال : ( ( لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا ابن عباس إبراهيم ، ابتلاه الله بثلاثين خصلة من خصال الإسلام ) ) . واستنبطها بالعدد من أربع سور ليس فيها خطاب له - عليه الصلاة والسلام - ، وقال شيخنا في الدرس : جعل التكليف بالكلمات ؛ لأنها تدل عليها ، وتعرف بها عادة ، ولم يذكر الكلمات ما هي ولا الإتمام كيف كان ؛ لأن العرب تفهم المراد بهذا الإبهام والإجمال ، وأن المقام مقام إثبات أن الله - تعالى - عامل ابن عباس إبراهيم معاملة المبتلي أي المختبر له لتظهر حقيقة حاله ويترتب عليها ما هو أثر لها ، فظهر بهذا الابتلاء و الاختبار فضله بإتمامه ما كلفه الله - تعالى - إياه وإتيانه به على وجه الكمال . هذا هو المبادر ، ولكن المفسرين لم يألوا في تفسير الكلمات والخبط في تعيينها فقال بعضهم : إنها مناسك الحج ، وقال آخرون : إنها خصال الإيمان واستخرجوها من آيات من القرآن ، وذهب بعضهم إلى أن الإشارة بالكلمات إلى الكوكب والقمر والشمس التي رآها واستدل بأفولها على وحدانية الله - تعالى - ، وكأن قائل هذا يعتقد أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان يظن أن هذه الكواكب أرباب ، وحاش لله ، ما كان منه إلا قال : ( هذا ربي ) تمهيدا للحجة والبرهان ؛ ولذلك قال - تعالى - بعد حكاية ذلك عنه : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) ( 6 : 83 ) وذهب قوم إلى أن المراد بها جعل الله إياه إماما وتكليفه بإقامة البيت وتطهيره وأن بقية الآية مفسر للإبهام فيها . وادعى بعضهم أن المراد أمره في المنام بذبح ولده ، وإنما هذا الأمر كلمة واحدة ، فكيف جعلوها عشرا ؟ وزعم آخرون أن الكلمات هي الخصال العشر التي تسمى ، وهي : قص الشارب والمضمضة والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس ، وتقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، والاستحداد وقيل غير ذلك . خصال الفطرة
قال الأستاذ الإمام عند إيراد قول المفسر ( الجلال ) في تفسير الكلمات إنها الخصال العشر : إن هذا من الجراءة الغريبة على القرآن ، ولا شك عندي في أن هذا مما أدخله اليهود على المسلمين [ ص: 374 ] ليتخذوا دينهم هزوا ، وأي سخافة أشد من سخافة من يقول : إن الله - تعالى - ابتلى نبيا من أجل الأنبياء بمثل هذه الأمور ، وأثنى عليه بإتمامها ، وجعل ذلك كالتمهيد لجعله إماما للناس وأصلا لشجرة النبوة ، وإن هذه الخصال لو كلف بها صبي مميز لسهل عليه إتمامها ولم يعد ذلك منه أمرا عظيما ؟ والحق أن مثل هذا يؤخذ كما أخبر الله - تعالى - به ولا ينبغي تعيين المراد به إلا بنص عن المعصوم .
هذا ملخص ما قاله شيخنا في الدرس وهو صفوة الحقيقة ، ولكن كتب إليه رجل من المشتغلين بالعلم في سوريا كتابا عقب قراءته ذلك في المنار يقول فيه : إن تفسير الكلمات بخصال الفطرة مروي عن ترجمان القرآن - رضي الله عنهما - فكيف يخالفه فيه ؟ وشدد النكير في ذلك وأطنب في مدح ابن عباس . وقد أرسل إلي الأستاذ كتابه عند وصوله وكتب عليه : ( ( الشيخ ابن عباس رشيد يجيب هذا الحيوان ) ) . . . فكتبت إليه - وكان صديقا لي - كتابا لطيفا كان مما قلته فيه على ما أتذكر : إننا لم نر أحدا من المفسرين ولا من أئمة العلماء التزم موافقة في كل ما يروى عنه ، وإن صح سنده عنده ، فكيف إذا لم يصح ؟ وقد قال الشيخ ابن عباس محمد عبده : إنه يجل عن هذه الرواية ولا يصدقها ، ولما كانت مثل هذه الشبهة أو الطعن في أي عالم بأنه خالف فلانا الصحابي أو الإمام فلانا مما يروج في سوق العوام ، نذكر هنا ما قاله شيخ المفسرين ابن عباس بعد ذكر رواياته المختلفة في تفسير ( الكلمات ) عن ابن جرير الطبري وغيره من مفسري السلف ونقله عنه ابن عباس ابن كثير مقرا له ، قال هذا : قال ما حاصله : إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر ، وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع ، ( قال ) : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ا هـ . أبو جعفر بن جرير
المراد منه وهو عين ما ذهب إليه شيخنا وهذه الحجة يدلي بها في مواضع كثيرة من تفسيره وهي الحق . ابن جرير
ذكر - تعالى - أن إبراهيم أتم الكلمات ، وأنه - تعالى - ( قال ) له : ( إني جاعلك للناس إماما ) وقد فصلت الجملة عما قبلها ؛ لأنها جواب عن سؤال مقدر تدل عليه القرينة ، قال شيخنا : ولم يقل : فقال إني جاعلك ، للإشعار بأن هذه الإمامة بمحض فضل الله - تعالى - واصطفائه لا بسبب إتمام الكلمات ، فإن الإمامة هنا عبارة عن الرسالة وهي لا تنال بكسب الكاسب .
وليس في الكلام دليل على أن الابتلاء كان قبل النبوة ، وأما فائدة الابتلاء : فهي تعريف إبراهيم - عليه السلام - بنفسه ، وأنه جدير بما اختصه الله به ، وتقوية له على القيام بما يوجه إليه ، وقد تحققت إمامته للناس بدعوته إياهم إلى التوحيد الخالص - وكانت الوثنية قد عمتهم وأحاطت بهم - فقام على عهده بالحنيفية وهي الإيمان بتوحيد الله والبراءة من الشرك وإثبات [ ص: 375 ] الرسالة ، وتسلسل ذلك في ذريته خاصة ، فلم ينقطع منها دين التوحيد ؛ ولذلك وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم .
وماذا قال إبراهيم لما بشره الله - تعالى - بجعله إماما للناس ؟ ( قال ومن ذريتي ) أي قال : واجعل من ذريتي أئمة للناس ، وهو إيجاز في الحكاية عنه لا يعهد مثله إلا في القرآن .
وقد جرى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - على سنة الفطرة في دعائه هذا ، فإن الإنسان لما يعلم من أن بقاء ولده بقاء له يحب أن تكون ذريته على أحسن حال يكون هو عليها ، ليكون له حظ من البقاء جسدا وروحا . ومن دعاء إبراهيم الذي حكاه الله عنه في السورة المسماة باسمه ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ) ( 14 : 40 ) وقد راعى الأدب في طلبه ، فلم يطلب الإمامة لجميع ذريته بل لبعضها ؛ لأنه الممكن وفي هذا مراعاة لسنن الفطرة أيضا . وذلك من وآدابه ، فمن خالف في دعائه سنن الله في خليقته أو في شريعته ، فهو غير جدير بالإجابة ، بل هو سيئ الأدب مع الله - تعالى - ؛ لأنه يدعوه لأن يبطل لأجله سنته التي لا تتبدل ولا تتحول أو ينسخ شريعته بعد ختم النبوة وإتمام الدين . شروط الدعاء
وبماذا أجاب الله إبراهيم حين دعاه هذا الدعاء ؟ ( قال لا ينال عهدي الظالمين ) أي إنني أعطيك ما طلبت ، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس ، ولكن عهدي بالإمامة لا ينال الظالمين ؛ لأنهم ليسوا بأهل لأن يقتدى بهم ، ففي العبارة من الإيجاز ما يناسب ما قبلها . وإنما اكتفى في الجواب بذكر المانع من منصب الإمامة مطلقا ، وهو الظلم لتنفير ذرية إبراهيم من الظلم وتبغيضه إليهم ليتحاموه وينشئوا أولادهم على كراهته ، ويربوهم على التباعد عنه لكيلا يقعوا فيه فيحرموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها ، ولتنفير سائر الناس من الظالمين وترغيبهم عن الاقتداء بهم ، فإن الناس قد اعتادوا الاقتداء بالرؤساء والملوك الظالمين لأنفسهم ولغيرهم بالخروج عن الشريعة إلا ما يوافق أهواءهم ، ويحرفون أو يؤولون الأحكام لتطابق شهواتهم ، وقد درجوا على ذلك في كل عصر ما عدا عصر النبوة وما قاربه ، كعصر خلافة النبوة كما يعلم من شهادة التاريخ التي لا ترد .
أقول : وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالظلم هنا أشد أنواعه قبحا وضررا وهو الشرك والكفر ، ومنه ( إن الشرك لظلم عظيم ) ( 31 : 13 ) و ( والكافرون هم الظالمون ) ( 2 : 254 ) ولكن لا دليل هنا على الحصر أو القصر ، ومن يظلم الناس من الموحدين المقرين بالرسالة غير أهل لإمامتهم ؛ لأنه قدوة باطل وشر يفسد عليهم دينهم ودنياهم . وإذا كان فقهاؤنا يقولون : بأن الإمام لا ينبذ عهده إلا بالكفر الصريح دون الظلم والفسق ، فإنما يقولون ذلك خوفا من وقوع الفتنة ؛ لا لأن الظالم أهل للإمامة ، ألم تر أنهم يشترطون [ ص: 376 ] في اختياره وبيعته العدالة ، ومن قواعدهم أنه يغتفر في البقاء والاستمرار ما لا يغتفر في الابتداء ، وليس هذا في كل شيء أيضا .
( قال الأستاذ ) : الإمامة الصحيحة والأسوة الحسنة هي فيما تكون عليه الأرواح من الصفات الفاضلة والملكات العلمية التي تملك على صاحبها طرق العمل فتسوقه إلى خيرها وتزعه عن شرها ، ولا حظ للظالمين في شيء منها ، وإنما هم أصحاب الرسم وأهل الخداع والانخداع بالظاهر ، ولذلك يصفون أعمالهم وأحكامهم بالرسمية . وقد إبراهيم إماما للناس وذكر لنا في كتابه كثيرا من صفاته الجليلة كقوله - تعالى - : ( جعل الله إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ) ( 16 : 20 ) الآية ، وقوله : ( إن إبراهيم لحليم أواه منيب ) ( 11 : 75 ) ولم يذكر لنا شيئا من زيه وصفة ثيابه ، ولا وصف أنواع طعامه وشرابه ، بل أرشدنا إلى أن دعوته الصالحة لا يدخل فيها ولا ينتفع بها أحد من ذريته إلا من اجتنب الظلم لنفسه وللناس .
قال : وقد أخذوا من هذه الآية حكما أصوليا ، وهو أن الظالم لا يجوز أن يولى ، واشترطوا لصحة الخلافة فيما اشترطوا العلم والعدل ، ونقل أن منصب الإمامة العظمى ( رح ) كان يفتي سرا بجواز الخروج على أبا حنيفة المنصور ، ويساعد على ما كان ينزع إليه من الخروج عليه . اكتفى الأستاذ الإمام من الدرس بهذا القدر من الاستشهاد . علي بن الحسن
ومن الناس من يعلل إباء أبي حنيفة من الأئمة منصب القضاء في زمن المنصور وأمثاله من الأمراء ، باعتقاد عدم صحة إمامتهم ، وعدم انعقاد ولايتهم ، ويروى أن كان يرى يومئذ أن الإمامة يجب أن تكون للعلويين خاصة . أبا حنيفة
ثم ذكر الأستاذ الإمام هنا أئمة العلم وقال : إن الناس لم يرعووا عن الاقتداء بالظالمين حتى بعد هذا التحذير الذي أوحاه الله إلى إبراهيم ، ثم أعلم به محمدا - عليهما الصلاة والسلام - ؛ فإنهم ظلوا على دين ملوكهم وهم اليوم وقبل اليوم يدعون الاقتداء بالأئمة الأربعة - رضي الله عنهم ، وهم كاذبون في هذه الدعوى ، فإنهم ليسوا على شيء من سيرتهم في التخلق بأخلاق القرآن ، وتحري اتباع الكتاب والسنة في جميع الأعمال .
اكتفى الأستاذ الإمام بهذه الإشارة في الدرس ، ونزيدها إيضاحا فنقول : قد غلبت على الناس أهواء السلاطين والحكام الظالمين ، حتى إن هؤلاء الأئمة الأربعة لم يسلموا من أولئك الظالمين ، فقد سجن أبو حنيفة وحاولوا إكراهه على ، لما رأوا من إقبال الناس على الأخذ عنه فلم يقبل ، فضربوه وحبسوه ولم يقبل كما هو مشهور . قبول القضاء
وضرب الإمام مالك سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان ، نقله ابن خلكان عن شذور العقود ، ونقل عن لابن الجوزي : أنه لم يكن في آخر عهده يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ، وكان يقول : ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره . الواقدي
وسعي به إلى - رضي الله عنهما - وهو عم [ ص: 377 ] جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس وقالوا له : إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء ، فغضب أبي جعفر المنصور جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط ، ومدت يده حتى انخلعت كتفه ، وارتكب منه أمرا عظيما .
وخبر طلب هارون الرشيد للقضاء وإبائه واختفائه ثم هربه مشهور ، وسببه الورع . الشافعي
وأشهر منه محنة وحبسه وضربه الضرب المبرح ؛ ليقول بخلق القرآن . فهكذا عامل الملوك الظالمون هؤلاء الأئمة وبلغوا منهم ومن الناس بظلمهم ما أرادوا من إفساد الدين والدنيا . الإمام أحمد
وكلنا يعلم أن أولئك الذين ظلموا الأئمة الذين يدعي الأمراء والحكام اليوم اتباعهم كانوا أقل توغلا وإسرافا في الظلم من أكثر الملوك والأمراء المتأخرين ، وإنك لترى أكثر الناس تبعا لأهواء هؤلاء الرؤساء إلا من وفقه الله وهداه - وقليل ما هم - بل هم الغرباء في الأرض .
والعبرة في مثل ما أشرنا إليه من الأحداث أن الظالمين من حكام هذه الأمة بدءوا بتحكيم أهوائهم السياسية في الدين وأهله من القرن الأول ، وكانوا إذا رأوا الناس قد أقبلوا على رجل من رجال الدين استمالوه ، فإن لم يمل إليهم آذوه وأهانوه ، ولكن كان الدين وطلب الحق غالبا على أمر المسلمين ، فقد نقل المؤرخون أن الإمام مالكا لم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة ، وكأنما كانت تلك السياط حليا حلي به . ولو أمر أحد السلاطين المتأخرين بضرب عالم من أعلم أهل العصر ؛ لأنه لا يرى عهد بيعته صحيحا أو لأنه أفتى بما لا يوافق غرضه ( كما نقل عن مالك ) لما رأيت له رفعة ولا احتراما عند الناس ، ولأعرض الجميع عنه .
فأما العقلاء العارفون بفضله ، فيعرضون عنه بوجوههم ، وأما الغوغاء من العامة ومن في حكمهم ، فيعرضون عنه بقلوبهم ووجوههم ، ويعتقدون كفره أو فسقه وابتداعه .
ذلك أن الظالمين من الأمراء قد استعانوا بالظالمين من الفقهاء على إقناع العامة بأنهم أئمة الدين الذين يجب اتباعهم حتى في الأمور الدينية ، وحالوا بينهم وبين كتاب الله الذي ينطق بأن عهد الله بالإمامة لا ينال الظالمين . وغشوهم بأن أئمة الفقه الأربعة يحكمون بذلك ، ولو عرف الناس سيرتهم مع خلفاء زمنهم لما تيسر غشهم . هذا وإن الحاكمين على عهدهم كانوا على علم بالكتاب والسنة ، واتباع لهما في أكثر أعمالهم وأحكامهم ، وأما المتأخرون فلا يعرفون من ذلك أكثر مما يعرفه السوقة ، ويعملون بخلاف ما يعلمون ، بل يشرعون للناس أحكاما جديدة يأخذونها من قوانين الأمم تخالف الشريعة ولا توافق مصلحة الأمة ، ويلزمون عمالهم وقضاتهم الحكم بها باسمهم لا باسم الله - تعالى - ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) ( 5 : 45 )