وقد اضطربت أقوال العلماء في آية ( إنا أوحينا إليك ) وحديث الشفاعة . قال الرازي في تفسير الآية : ( المسألة الثالثة ) قالوا إنما بدأ الله بذكر نوح لأنه ، ثم قال تعالى : ( أول نبي شرع الله على لسانه الأحكام والحلال والحرام والنبيين من بعده ) ثم خص بعض النبيين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم ، انتهى وتبعه فيه النيسابوري وأبو السعود والخازن وغيرهم وزادوا على ذلك خصائص نوح . قال الخازن ما نصه : قال المفسرون : وإنما بدأ الله بذكر نوح عليه السلام لأنه أول نبي بعث بشريعة وأول نذير على الشرك ، وأنزل الله عز وجل عليه عشر صحائف ، وكان ، وكان أبا البشر أول نبي عذبت أمته لردهم دعوته كآدم عليهما السلام . انتهى المراد منه ، ومثله في فتح البيان في مقاصد القرآن ، وذكر الآلوسي أن تعليل البدء بذكره بكونه أول من شرع الله على لسانه الأحكام قد تعقب بالمنع ، ولم يذكر لهذا المنع سندا ، ولا لقوله تعالى : ( والنبيين من بعده ) حكمة ولا نكتة . وقد سكت عن ذلك أكثر المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم . فمفهوم تصريح هؤلاء المفسرين الناقلين عن غيرهم [ ص: 503 ] من العلماء أن آدم لم يكن رسولا لأن الآية تدل عندهم على أن أول رسول شرع الله على لسانه الأحكام ، هو نوح عليه السلام .
وأما حديث الشفاعة فقد تكلم فيه الحافظ ابن حجر في عدة مواضع من شرح : قال في شرح حديث البخاري جابر من كتاب التيمم " " : وأما قول أهل الموقف أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي - إلى قوله - وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة لنوح كما صح في حديث الشفاعة : أنت أول رسول إلى أهل الأرض - فليس المراد به عموم بعثته بل إثبات أولية إرساله انتهى . وهذا اعتراف بأنه أول الرسل . ثم قال في شرح حديث من كتاب أحاديث الأنبياء : فأما كونه أول الرسل فقد استشكل بأن أبي هريرة آدم كان نبيا وبالضرورة نعلم أنه كان على شريعة من العبادة وأن أولاده أخذوا ذلك عنه ، فعلى هذا فهو رسول إليهم فيكون أول رسول ، فيحتمل أن تكون الأولية في قول أهل الموقف لنوح مقيدة بقولهم " إلى أهل الأرض " لأنه في زمن آدم لم يكن للأرض أهل ، أو لأن رسالة آدم إلى بنيه كانت كالتربية للأولاد ، ويحتمل أن يكون المراد أنه - أي نوحا - أول رسول أرسل إلى بنيه وغيرهم من الأمم الذين أرسل إليهم من تفرقهم في عدة بلاد وآدم إنما أرسل إلى بنيه وكانوا مجتمعين في بلدة واحدة . واستشكله بعضهم بإدريس ولا يرد لأنه اختلف في كونه جد نوح كما تقدم انتهى . أقول : ويلي شرحه لهذا الحديث شرحه لما أورده في البخاري إلياس عليه السلام وفيه عن ابن مسعود أن وابن عباس إلياس هو إدريس ، وقال الحافظ عند الكلام على ترجمة الباب : وكان المصنف - أي - رجح عنده كون البخاري إدريس ليس من أجداد نوح فلذا ذكره بعده اهـ . وإنما ذكره بعد إلياس .
ثم قال في شرح حديث أنس من كتاب الرقاق - بعد ذكر الاستشكال بآدم وشيث وإدريس - ومجمل الأجوبة عن الإشكال المذكور أن الأولية مقيدة بقولهم : " إلى أهل الأرض " لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض . ثم ذكر الإشكال بحديث جابر والجواب عنه بأن قوم نوح كانوا هم أهل الأرض ، وبعثة نبينا لقومه ولغير قومه ، ثم قال : أو الأولية مقيدة بكونه أهلك قومه ، أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا . وإلى هذا جنح في حق ابن بطال آدم ، وتعقبه عياض بما صححه من حديث ابن حبان أبي ذر فإنه كالصريح في أنه كان نبيا مرسلا ، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال وأما إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان في بني إسرائيل وهو إلياس وقد ذكر ذلك في أحاديث الأنبياء . ومن الأجوبة أن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته ، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد اهـ .
وظاهر أن جواب وهو أحد شراح ابن بطال من فقهاء المالكية الأندلسيين أبعد [ ص: 504 ] الأجوبة المذكورة عن التكلف ، وأولها باطل لأن أولاد البخاري آدم وأحفاده كانوا أهل الأرض لا السماء ، وباقيها لا يزيل الإشكال . وتعقب القاضي عياض له بحديث أبي ذر عجيب منه ، وأعجب منه سكوت الحافظ عليه ، فالحديث اختلف الحفاظ فيه فجزم بأنه موضوع ، وحقق ابن الجوزي السيوطي في مختصر الموضوعات أنه ضعيف وذكر ذلك في الدر المنثور ، واتفقوا على انتقاد لذكره إياه في صحيحه كما صرح بذلك الحافظ ابن حبان ابن كثير في تفسيره ، وقد قدم القسطلاني جواب غير معزو إليه على غيره مما ذكر من تلك الأجوبة في شرحه لحديث ابن بطال أنس من كتاب الرقاق في فقال عند قول البخاري آدم " ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله " : أي آدم وشيث وإدريس أو الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا . إلخ . فالقسطلاني يعد القول بعدم رسالة آدم جوابا مقبولا .
وقال النووي في شرح حديث أنس من صحيح مسلم : قال الإمام قد ذكر المؤرخون أن أبو عبد الله المازري إدريس جد نوح عليهما السلام ، فإن قام دليل على أن إدريس أرسل أيضا لم يصح قول النسابين أنه قبل نوح لإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن آدم أن نوحا أول رسول بعث ، وإن لم يقم دليل جاز ما قالوه وصح أن يحمل على أن إدريس كان نبيا غير مرسل . قال : وقد قيل إن القاضي عياض إدريس هو إلياس وأنه كان نبيا في بني إسرائيل كما جاء في بعض الأخبار مع يوشع بن نون فإن كان هكذا سقط الاعتراض ، قال القاضي : وبمثل هذا يسقط الاعتراض بآدم وشيث ورسالتهما إلى من معهما وإن كانا رسولين فإن آدم إنما أرسل لبنيه ولم يكونوا كفارا ، بل أمر بتعليمهم الإيمان وطاعة الله تعالى ، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم ، بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض . قال القاضي : وقد رأيت ذهب إلى أن أبا الحسن ابن بطال آدم ليس برسول ليسلم من هذا الاعتراض ، وحديث أبي ذر الطويل ينص على أن آدم وإدريس رسولان . هذا آخر كلام القاضي والله أعلم اهـ .
فجملة هذه النقول عن كبار المفسرين والمحدثين من المتكلمين والفقهاء آدم مختلف في رسالته ، أن إدريس مختلف من رسالته وفي كونه هو إلياس المذكور في آيات سورة الأنعام التي نفسرها أو غيره . فيكون عدد الرسل المجمع على وجوب الإيمان برسالتهم لأن نص القرآن فيها قطعي - ثلاثة وعشرين فقط ، وأما الأحاديث فليس فيها نص قطعي الرواية والدلالة على رسالة وأن آدم ، وقد علمت أن حديث أبي ذر الذي نص على ذلك في سياق لا يحتج به في الأحكام العملية التي يكتفى فيها بالدليل الظني بله هذه المسألة الاعتقادية التي يطلب فيها اليقين ، لأن أهون ما قيل فيه : إنه ضعيف ، وقيل : إنه موضوع . ولو وجدوا حديثا صحيحا أو حسنا في إثبات رسالة عدد الأنبياء والرسل آدم لما لجأوا إلى ذكره .
وأما مسألة نبوته وهو كونه موحى إليه من الله تعالى ففيها حديث آحادي رواه البيهقي وغيره عن أبي أمامة قال آدم ؟ قال " نعم معلم مكلم " [ ص: 505 ] وقد فسر المعلم في كتب غريب الحديث بالملهم للخير والصواب ، وروي " نبي مكلم " والتكليم أنواع أصولها ثلاثة بينها الله تعالى بقوله : ( إن رجلا قال يا رسول الله : أنبيا كان وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) 42 : 51 ومنها وحي الرسالة وما دونه ، ومنها الرؤيا الصادقة كما ورد في التفسير المأثور ، وأما حجته من القرآن فيمكن أن تؤخذ من قصة خلقه ومعصيته وتوبته ، إذ فيها أن الله علمه الأسماء كلها ، وأنه تلقى من ربه كلمات فتاب عليه وهداه ، ولكن دلالة ما ذكر على نبوته غير قطعية فإن الجمهور لا يجعلون كل وحي نبوة ، لا ما كان بخطاب الملك ولا ما كان بالإبهام والنفث في الروع ; ولذلك لا يقولون بنبوة مريم وأم موسى ، ومن العلماء من قال بنبوتهما . ثم إنه يحتمل أن يكون خطاب آدم في قصة خلقه من خطاب التكوين لا التكليف كقوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) 41 : 11 وقد قال الشاذلي من كبار العلماء والصوفية " وهب لنا التلقي منك كتلقي آدم منك الكلمات ليكون قدوة لولده في التوبة والأعمال الصالحة " ولو كان هذا التلقي نصا قطعيا في نبوته لما طلبه هذا العالم العارف باللغة وأساليبها .
وقد ادعى الحافظ ابن حجر أن دليل رسالته أننا نعلم بالضرورة أنه كان على شريعة من العبادة ، وأن أولاده أخذوا ذلك عنه ، فعلى هذا فهو رسول إليهم فيكون هو ، وقد يقال إن أخذ أولاده عنه لا يقتضي عقلا أن يكون الله قد بعثه رسولا إليهم يبلغهم عنه وجوب الإيمان بهذه الرسالة وما يترتب عليها من الإنذار والتبشير ، حتى يكون ذلك معارضا لحديث الشفاعة ، إذ يجوز أن يكون قد رباهم من الصغر على ما هداه الله إليه من الإيمان والعمل الصالح كما تقدم عن بعض العلماء ، ونزيد عليه أن في القرآن نصا يدل على أنه كان يعلمهم العبادة وأحكام الحلال والحرام وما يترتب عليهما من الجزاء ، وهو نبأ ابني آدم المفصل في سورة المائدة فمن العبادة فيه تقريب القربان ، ومن خبر الجزاء على الأعمال قول المعتدى عليه للمعتدي : ( أول رسول إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ) 5 : 29 ومن العجيب أن يغفل أولئك الحفاظ عن هذه الآيات ، ويكتفوا من النقل بحديث أبي ذر الموضوع أو الضعيف وبدعوى الضرورة العقلية التي ادعاها الحافظ ابن حجر ، هذا إن كانوا يفهمون منها أنها تدل على رسالة آدم دلالة قطعية ، وإذا كانوا لا يفهمون ذلك فبم يستدلون ؟ .
وجملة القول أن الثابت قطعا في المسألة هو أن آدم عليه السلام كان على هدى من الله يعمل به ويربي عليه أولاده ، وأنه منه عبادات وقربات يرغب فيها مبشرا بأن فاعلها يثاب عليها ، ومحرمات ينهى عنها منذرا بأن فاعلها يعاقب عليها ، وهذا الهداية هي من جنس هداية الله للنبيين والمرسلين التي بلغوها أقوامهم ، ولا ندري كيف هدى الله تعالى آدم إليها فإن طرق [ ص: 506 ] الهداية والتبليغ الإلهي متعددة . وكان الظاهر المتبادر أن ذلك كان بوحي الرسالة لولا ما عارضه من حديث الشفاعة وآية ( إنا أوحينا إليك ) وما يؤيدها مما تقدم ، ومن احتمال أن ذلك من هداية الفطرة السليمة التي فطر آدم عليها ونشأت عليها ذريته إلى زمن نوح ، إذ اختلف الناس وحدثت فيهم الوثنية فبعث الله النبيين ، وجعل منهم الرسل المبلغين عنه بإذنه المؤيدين منه بالآيات لإقامة الحجة على الكافرين . وذلك قوله عز وجل : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) 2 : 213 الآية . فقد صح عن - رضي الله عنه - أنه فسر ذلك بأنهم كانوا على الإسلام ، وفي رواية مفصلة عنه قال : كان بين ابن عباس آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين ، قال الرواة وكذلك هي في قراءة ) " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا " إلخ . ورووا عن أبي أنه كان يقرؤها كذلك أيضا ، ويؤيد ذلك في المعنى آيات أخرى . ورووا عن عبد الله ( أي ابن مسعود قتادة أنه قال : ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله نوحا وكان أول رسول أرسله الله إلى الأرض ، وبعث عند الاختلاف من الناس فبعث إليهم ؟ رسله وأنزل كتابه يحتج به على خلقه اهـ . من الدر المنثور ، ومنه يعلم المخرجون لهذه الرويات . فهذا قتادة من كبار علماء التابعين يقول بأن نوحا أول نبي مرسل . ويؤيد الرواية عنه ما تقدم ما ورد من التفسير المأثور في قوله تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ) 30 : 30 الآية - كحديث الصحيحين وغيرهما الناطق بأن . وفي بعض رواياته يولد على فطرة الإسلام ، وفي بعضها على الملة . ومنها حديث كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه عياض بن حمار المجاشعي المرفوع عند محمد بن إسحاق الذي ذكر فيه آدم فقال - صلى الله عليه وسلم - : " آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا ما أعطاهم الله حراما وحلالا إن الله خلق " وفي معناه آثار . والمراد من ذلك في مسألتنا أن الله تعالى فطر آدم على معرفته وتوحيده وشكره وعبادته ، وزاده هدى بما كان يلهمه إياه من الأقوال والأعمال ، وبما يصل إليه اجتهاد كما قيل في عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار قبل البعث . وقد يزاد على ذلك إرشاد الملائكة له ولأولاده ، فقد كانوا بطهارة فطرتهم يرون الملائكة كما ورد في تعليمهم إياهم تجهيز أبيهم ودفنه حين توفي ، ولسنا بصدد تمحيص أمثال هذه الروايات ، ولكن [ ص: 507 ] مجموعها يؤيد الحدث المصرح بنبوة آدم ، وإلا كان من الهداية والتعليم الإلهي ما هو أعلى من النبوة أو ما هو مساو لها ، فإن كثيرا من الأنبياء لم يؤت من ذلك مثل ما أوتي آدم . والأنبياء أفضل البشر بالإجماع .
فبهذا التفصيل يعلم وجه ما اشتهر على ألسنة العلماء من القول بنبوة آدم ورسالته مع عدم وجود النص القاطع ، بل مع وجود النص المعارض ، فإن هدايته لذريته من نوع هداية الرسل للمؤمنين من أتباعهم كما بيناه آنفا من معنى الآيات فيه ; ولذلك جعله الحافظ من قبيل الضروري ولكنه لم يبين وجه الضرورة ، ولم يهتد إلى الجمع بينه وبين المعارض له . والذي يتجه في الجمع بغير تكلف هو التفرقة بين هداية من ولدوا على الفطرة وبين بعثة نوح ومن بعده من الرسل إلى من فسدت فطرتهم واختلفوا في الدين الفطري وفي الكتاب الإلهي من المشركين والضالين من أتباع نبي سابق فأعرضوا عما دعاهم إليه ، بأن تجعل هذه الهداية الأخيرة هي الرسالة الشرعية التي يسمى من جاءوا بها رسلا دون الأولى ، وبهذا يجمع بين عدة أجوبة مما نقل عن العلماء في رفع التعارض بتوضيح قليل كقول من قال : إنما كانت رسالة آدم إلى بنيه المؤمنين ، ورسالة نوح ومن بعده إلى الكافرين ، ومن قال : إنما كانت رسالة آدم إلى بنيه من قبيل تربية الوالد لأولاده . وفيهما أن تسميتها رسالة شرعية بالمعنى المراد من الآيات هو الذي يحقق التعارض فكيف يجعل دافعا له ؟ وأما إذا أثبتنا بالمعنى المراد من الآيات هو الذي يحقق التعارض فكيف يجعل دافعا له ؟ وأما إذا أثبتنا ما ذكر لآدم ولم نسمه رسالة بالمعنى الشرعي المذكور فإن التعارض يندفع بغير تكلف كما قلنا وتصح الأقوال كلها ويكون الخلاف أشبه باللفظي ، فهو رسول بالمعنى المشهور عند المتكلمين دون المعنى المتبادر من القرآن والحديث .
ثم ختم الله تعالى هذا السياق بقوله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا أسألكم عليه أجرا ) أي قل أيها الرسول لمن بعثت إليهم أولا : لا أسألكم على هذا القرآن الذي أمرت أن أدعوكم إليه وأذكركم به أو على التبليغ ( وكلاهما ) مفهوم من السياق وإن لم يذكرا ، والمختار الأول ، أجرا من مال ولا غيره من المنافع ، أي كما أن جميع من قبلي من الرسل لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى - وذلك مصرح به في قصصهم من سورة هود وسورة الشعراء وغيرهما ، وقد قيل إن هذا مما أمر أن يقتدى بهم فيه ، والتحقيق أن ما أمره الله تعالى به استقلالا لا يدخل فيما أمر بفعله اقتداء كما تقدم بيانه ، وقد تكرر هذا الأمر له - صلى الله عليه وسلم - في عدة سور ، وهو على عمومه ، والاستثناء في قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) 42 : 23 منقطع ومعناه على ما رواه أحمد والشيخان وغيرهم عن والترمذي : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ، ويوضحه قوله في رواية ابن عباس لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : والطبراني قريش ، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال " يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم " وفي هذا المعنى روايات أخرى ، والمعنى : إني لا أسألكم على ما جئتكم به من سعادة الدنيا والآخرة جعلا منكم ، ولكن مودة القرابة بيني وبينكم مما يجب أن يحفظ ، وهي دون ما جريتم عليه من عصبية النسب ولو بالباطل ، فإن من تلك العصبية أن يحمى القريب قرابته وأهل نسبه ويقاتل من عاداهم ، وإني أكتفي منكم بالمودة وأقلها أن لا تعادوني ولا تؤذوني ، وأعلاها أن تمنعوني وتحموني ممن يؤذيني . وليس هذا من الأجر على التبليغ في شيء ، فإنما يعطى الأجر على الشيء من يقبله وينتفع به فيكافئ صاحبه بمنفعة توازيه أو لا توازيه ، وقد صرح كان لرسول الله - صلى الله [ ص: 508 ] عليه وسلم - قرابة من جميع بما ذكرنا من أقل المودة في رواية ابن عباس ابن مردويه عنه من طريق عكرمة ، وقيل الآية غير ذلك كقول بعضهم إلا أن تودوا الأقارب وتصلوا الأرحام بينكم ، وقول بعضهم : إنها في الأنصار . وقول آخرين : إنها في آل البيت النبوي توجب مودتهم وموالاتهم ولا شك في أن حبهم وودهم وولاءهم من الإيمان ، وأن بغضهم من الكفر أو النفاق ، ولكن الرسول لم يطلب من الأمة بأمر الله أن تجعل هذا أجرا له على تبليغ الدعوة والقيام بأعباء الرسالة ، بل أجره في ذلك على الله تعالى وحده كغيره من إخوانه الرسل كما هو مصرح في آيات أخرى ، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في تفسير الشعراء وغيرها .
( إن هو إلا ذكرى للعالمين ) الضمير راجع إلى القرآن كما رجعنا ، أي ما هو إلا تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة ، لا لكم خاصة ، وهو نص في عموم البعثة .