قرأ ابن عامر " وإن تكن " بالتاء " و ميتة " بالرفع ، وابن كثير : " يكن " بالياء و " ميتة " بالرفع ، وأبو بكر عن عاصم " يكن " بالياء و " ميتة " بالنصب . فأما الأول فليس في قراءته إلا تأنيث الفعل " تكن " لتأنيث خبره ، وأما قراءة ابن كثير فقالوا : إن فيها حذف الخبر ، والتقدير : وإن يكن لهم ميتة - أو - وإن يكن هناك ميتة ، وتذكير الفعل لأن الميتة بمعنى الميت ، وهذا يصدق بتلك الأنعام نفسها وبأجنتها التي في بطونها ومثل ذلك ما إذا جعلت " يكن " بمعنى يوجد أي فعلا تاما . وقالوا في تقدير قراءة عاصم : وإن تكن المذكورة ميتة ، وهو يشمل تلك الأنعام وما في بطونها أيضا . بل قال بعضهم مثل هذا في قراءة الباقين ، ولكن الذي يتبادر إلى ذهن العربي الفصيح من قوله تعالى : ( وإن يكن ميتة ) [ ص: 113 ] بالنصب أن المراد : وإن يكن ما في بطون تلك الأنعام ميتة . فالفائدة المعنوية في اختلاف القراءات ما ذكرنا وما عداه فاختلاف وجوه جائزة في اللغة .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله : ( خالصة ) فيه وجوه . أحدها : أن التاء فيه للمبالغة في الوصف كراوية وداهية وطاغية فلا يقال إنه غير مطابق للمبتدأ على القول بأنه خبر ، وثانيها : أن المبتدأ وهو ( ما في بطون هذه الأنعام ) مذكر اللفظ مؤنث المعنى لأنه المراد به الأجنة ، فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى - وثالثها : أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم : عطاؤك عافية ، والمطر رحمة ، والرخصة نعمة ، ورابعها أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن في الظرف وخبر المبتدأ ( لذكورنا ) .
( سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ) يقال : جزاه كذا وبكذا - أي جعله جزاء له على عمل عمله ، قال تعالى : ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ) ( 25 : 75 ) إلخ وقال : ( فذلك نجزيه جهنم ) ( 21 : 29 ) وقال : ( هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) ( 10 : 52 ) وقال : ( هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) ( 27 : 90 ) وجعل الجزاء عين العمل قد تكرر في سورة أخرى وقدروا له كلمة جزاء أو ثواب وعقاب بناء على أن العمل هو ما يجازى عليه لا ما يجازى به ، ولكن تعبير الكتاب لا يكون إلا لنكتة عالية في البلاغة ، وهي عندنا الإيذان بأن الجزاء لما كان أثرا لما يحدثه العمل في النفس من تزكية أو تدسية كان كأنه عين العمل ، فإن النفس تنعم أو تعذب بالصفة التي تطبعها فيها الأعمال ، وبهذا يتجلى لك هنا معنى جعل جزاء المفترين على الله في التشريع وصفهم ، ولا سيما إذا جعل الوصف هنا بمعنى الصفة التي هي حالة النفس وصورتها ، وقد بينا هذا المعنى في التفسير مرارا . ومعنى الجملة مع تعليلها : سيجزيهم الله بمقتضى حكمته في الخلق وعلمه بشئونهم وأعمالهم ومناشئها من صفاتهم ، بأن يجعل عقابهم عين ما يقتضيه وصفهم ونعتهم الروحي ، فإن لكل نفس في الآخرة صفات تجعلها في مكان معين من عليين ، أو سجين في أسفل سافلين ، كما أن صفة الجسم السائل الخفيف تقتضي بسنن الله أن يكون فوق الجسم الثقيل كما ترى في الزيت إذا وضع في إناء مع الماء ، وما يعرف الناس من درجات الحرارة في موازينها المعروفة مثال موضح للمراد ، فمنشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها العمل عليها . وإذا جعل الوصف مصدرا فلا بد من تقدير معموله كأن يقال سيجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء في العبادة والتشريع ، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ) ( 16 : 116 ) الآية .
[ ص: 114 ] قال في مادة وصف الأساس : ومن المجاز وجهها يصف الحسن ، ولسانه يصف الكذب ، وذكر هذه الآية ثم قال : وهذه ناقة تصف الإدلاج . قال الزمخشري الشماخ :
إذا ما أدلجت وصفت يداها لها الإدلاج ليلة لا هجوع
وفي روح المعاني أن الجملة كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه ، فإنهم يقولون : وصف كلامه الكذب ، إذا كذب ، وعينه تصف السحر أي ساحرة ، وقده يصف الرشاقة ، بمعنى رشيق مبالغة حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له : قال : المعري
سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الملالا
( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) حاصل ما أنكر الله تعالى على مشركي العرب في هذا السياق يرجع إلى الأمرين الفظيعين اللذين نعتهما عليهم هذه الآية وحكمت عليهم فيهما حكما حقا وعدلا ، وهو أنهم خسروا - الآتي بيانه وغيره - خسرانا عظيما دل عليه حذف مفعول خسروا الدال على العوام في بابه ليتروى السامع فيه ، ويتأمل ما وراء قوادمه من خوافيه ، وذلك أن خسران الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من فوائدهم من العزة والنصرة ، والبر والصلة والفخر والزينة والسرور والغبطة ، كما يستلزم خسران الوالد القاتل لعاطفة الأبوة ورأفتها ، وما يتبع ذلك من القسوة والغلظة والشراسة ، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق التي يضيق بها العيش في الدنيا ويترتب عليها العقاب في الآخرة ; ولذلك علل هذا الجرم بسفه النفس وهو اضطرابها وحماقتها ، وبالجهل أي عدم العلم بما ينفع ويضر وما يحسن ويقبح . بقتل أولادهم وبوأد البنات
ثم بين بعد هذا أنهم حرموا ما رزقهم الله من الطيبات وهذا سفه وجهل أيضا ولكنه دون ما سبقه من هذه الجهة ; ولذلك اقتصر على تعليله بشر ما فيه من القبح وهو الافتراء على الله بجعله دينا يتقرب به إليه . ثم بين نتيجة الأمرين بأنهم قد ضلوا فيهما ، وما كانوا مهتدين إلى شيء من الحق والصواب من طريق العقل ولا من طريق الشرع ، ولا من منافع الدنيا ولا من سعادة الآخرة ، فهذه الأعمال أقبح ما كانت عليه العرب من غواية الشرك وقد عاد إلى المسلمين شيء منه بتحريم ما لم يحرم الله وجعله دينا وهم لا يشعرون .
أخرج وغيره عن البخاري قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام ( ابن عباس قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها ) إلى قوله : ( وما كانوا مهتدين ) وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : نزلت [ ص: 115 ] فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة . كان الرجل يشترط على امرأته أنك تئدين جارية ( أي بنتا ) وتستحيين ( أي تبقين ) أخرى ، فإذا كانت الجارية التي توءد غدا من عند أهله أو راح وقال : أنت علي كأمي ( أي محرمة ) إن رجعت إليك ولم تئديها ، فترسل إلى نسوتها فيحفرن لها حفرة فيتداولنها بينهن فإذا بصرن به مقبلا دسسنها في حفرتها ويسوين عليها التراب - أي وهي حية - وهذا هو الوأد . وأخرج ، عبد بن حميد وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قتادة في الآية قال : هذا صنع أهل الجاهلية ، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه .