وأما ما ورد في بلفظ النهي فليس نصا في التحريم لاحتماله الكراهة ، وترجيح الاحتمال بدفع التعارض بينه وبين الحصر في الآيات الثلاث متعين على أنه يرد على الحديث أنه كان غير معروف عند علماء الحديث في أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير الحجاز ، ولو حرم تحريما قطعيا في غزوة مشهورة لنقل بالتواتر . وفي الصحيحين من رواية أنه لم يسمع هذا النهي في ابن شهاب الزهري الحجاز حتى إذا جاء الشام سمعه من وفي بعض طرقه أبي إدريس الخولاني مالك ، وهو يقول بكراهة أكل السباع لا بتحريمها ، فالظاهر أن سبب حمله النهي على الكراهة الآيات واستباحة أهل المدينة لأكل السباع إذ كان يحتج بعملهم في مثل هذا - وأما حديث الذي انفرد به أبي هريرة مسلم بلفظ " فأكله حرام " فيحتمل أنه من الرواية بالمعنى ، أي أنه فهم من النهي التحريم فعبر به وهذا كثير في أحاديث ككثرة مراسيله . ومما يعل به الحديث بعض الفقهاء أن يكون راويه فقيها ومذهبه مخالف لروايته ، فالحنفية يرون أنه لو لم يكن يرى أن الحديث لا يحتج به لما خالفه ، وناهيك بمثل في علم الحديث وفقهه وهو من رواته . وحديثا الإمام مالك جابر والعرباض المصرحان بالتحريم ليسا صحيحين وإنما حسنا لموافقتهما لأحاديث الصحيحين ولا سيما حديث . على أنهما قالا : حرم رسول الله كذا وكذا ، فالظاهر أنه تعبير عما فهما من كون النهي للتحريم ، فليس له قوة المرفوع . وقد علم من سائر الروايات الواردة فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أبي هريرة خيبر أن الصحابة قد اختلفوا في هذا النهي فذهب بعضهم إلى أنه عارض موقت وفهم آخرون أنه قطعي فالمسألة خلافية .
قال الحافظ في شرح حديث أبي ثعلبة من الفتح : قال الترمذي : العمل على هذا عند أهل العلم ، وعن بعضهم أنه لا يحرم ، وحكى ابن وهب ، وابن عبد الحكم عن مالك كالجمهور ، وقال ابن العربي : المشهور عنه الكراهة . وقال : اختلف فيه على ابن عبد البر ابن عباس وعائشة ، وجاء عن من وجه ضعيف وهو قول ابن عمر الشعبي ( يعني عدم التحريم ) واحتجوا بعموم ( وسعيد بن جبير قل لا أجد ) والجواب أنها مكية وحديث التحريم بعد الهجرة ثم ذكر نحو ما تقدم من أن نص الآية عدم تحريم غير ما ذكر إذا فليس فيها نفي ما سيأتي ، وعن بعضهم أن آية الأنعام خاصة ببهيمة الأنعام لأنه تقدم قبلها حكاية عن الجاهلية أنهم [ ص: 139 ] كانوا يحرمون أشياء من الأزواج الثمانية بآرائهم فنزلت الآية : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ) أي من المذكورات إلا الميتة والدم المسفوح ولا يرد كون لحم الخنزير ذكر معها لأنها قرنت به علة تحريمه وهو كونه نجسا ، ونقل عن إمام الحرمين أنه يقول بخصوص السبب إذا وردت مثل هذه القصة ; لأنه لم يجعل الآية حاصرة لما يحرم من المأكولات مع ورود صيغة العموم فيها ، وذلك أنها وردت في الكفار الذين يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، ويحرمون كثيرا مما أباحه الشرع ، فكان الغرض من الآية إبانة حالهم وأنهم يضادون الحق فكأنه قيل : لا حرام إلا ما حللتموه مبالغة في الرد عليهم . وحكى الشافعي القرطبي عن قوم أن آية الأنعام المذكورة نزلت في حجة الوداع فتكون ناسخة ، ورد بأنها مكية كما صرح به كثير من العلماء ويؤيده ما تقدم قبلها من الآيات من الرد على مشركي العرب في تحريمهم ما حرموه من الأنعام ، وتخصيصهم بعض ذلك بآلهتهم إلى غير ذلك مما سبق للرد عليهم وذلك كله قبل الهجرة إلى المدينة اهـ .
أقول : هذا أقوى وأوسع ما أجابوا به عن الآية قد لخصه أحفظ الحفاظ وأوسعهم اطلاعا ، وكله ساقط على جلالة قائليه ، وفي سقوطه أكبر حجة على المقلدين الذين يتركون العلم بكتاب الله وسنة رسوله بالاستقلال والإنصاف ، بزعم أن مشايخهم وأئمتهم أحاطوا بكل شيء علما ، حتى فيما خالفهم فيه أمثالهم من المجتهدين ومن فوقهم من الصحابة والتابعين : ولسنا نسقطه بنظريات اجتهادية من عند أنفسنا ، وإنما نسقطه بما غفلوا عنه من كتاب الله تعالى عند البحث في تأييد مذهبهم والاحتجاج له - وذلك أظهر مواضع العبرة - وهو ما أشرنا إليه من قبل من أن آية الأنعام قد تقرر مضمون معنى الحصر فيها في آية النحل المكية ( 16 : 115 ) وآية البقرة المدنية بالإجماع . والخطاب في هذه للمؤمنين حتما فلا يصح فيها شيء من التأويلات التي نقلها الحافظ آنفا على علاتها ، ولعله لولا نصر المذهب لما نسي الحافظ هذا عند النقل ، ولا تأييد للحصر فيها ورده على الجمهور ، وهذا نص آية سورة البقرة والآية التي قبلها في خطاب المؤمنين ( الفخر الرازي ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) ( 2 : 172 ، 173 ) لفظ ( إنما ) يفيد الحصر ولا يأتي فيه شيء من التأويلات التي تكلفوها في آية الأنعام التي نحن بصدد تفسيرها حتى جعلوا العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ على عكس القاعدة الأصولية المشهورة التي يؤيد جريانها في الآية تفسير وغيره من علماء الصحابة . وهاهنا نكتة دقيقة في التعبير بآية المائدة عن الحصر بالإثبات بعد النفي العام المستغرق ، وفي آيتي النحل والبقرة بـ ( إنما ) لم أر أحدا من المفسرين تعرض لها ، وإنما [ ص: 140 ] أخذتها من دلائل الإعجاز لإمام عموم البلاغة وواضعها الشيخ ابن عباس فنلخص قوله فيها مزيدا في البيان ، ودقائق بلاغة القرآن . قال : عبد القاهر الجرجاني
قال في قوله تعالى : ( أبو إسحاق الزجاج إنما حرم عليكم الميتة والدم ) النصب في الميتة هو القراءة ويجوز ( إنما حرم عليكم ) قال أبو إسحاق : والذي أختاره أن تكون " ما " هي التي تمنع " إن " من العمل ويكون المعنى : ما حرم عليكم إلا الميتة لأن " إنما " تأتي إثباتا لما يذكر بعدها ونفيا لما سواه .