( الأصل العاشر ) أن ، فمن وضع لهم حكما من ذلك لم يستند إلى شرع الله الذي أوحاه إلى رسوله فقد افترى على الله وجعل نفسه شريكا له في ربوبيته وأضل الناس بغير علم فهو ضال مضل ، وما جاء به فهو بدعة وضلالة ، وراجع تفسير الآيات 136 - 140 . التحليل والتحريم التعبديان وسائر شرائع العبادة وشعائرها من حق الله على عباده
( الأصل الحادي عشر ) أن التي ذكرت بصيغة الحصر في الآية ( 145 ) وهي الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فراجع تحقق الحق في تفسيرها . الله تعالى لم يحرم على الناس طعاما يطعمونه إلا الأربعة
( الأصل الثاني عشر ) أن هذه ألا يكون باغيا أي مريدا لها ، ولا عاديا أي متجاوزا حد الضرورة إلى التمتع بها . وإذا كان الاضطرار علة هذه الإباحة بشرطها فمثل هذه الأطعمة وغيرها من المحرمات التي يضطر إليها الإنسان لحفظ حياته ، كالاضطرار إلى الخمر أحيانا كما صرحوا به ، وليس منه الزنا لأنه ليس مما يضطر إليه أحد لحفظ حياته . [ ص: 255 ] ( الأصل الثالث عشر ) المحرمات تباح للمضطر إليها بشرط . فاتنا أن نذكر في تفسير قوله تعالى : ( السياحة والسير في الأرض قل سيروا في الأرض ) 11 أنه يدل بعمومه على وجوب السياحة وإن جعل الزمخشري والبيضاوي الأمر فيه للإباحة . وإنما يجب بالقصد المنصوص في الآيات كما يأتي تفصيله في الأصل التالي لهذا . نعم إن الخطاب في هذه الآية للمشركين المكذبين ، وأن الغرض منه الدلالة على مصداق الآية التي قبلها الناطقة بما حل من عقاب الله بالساخرين من الرسل والمستهزئين بهم من قبلهم ، ولكن الخاص لنزوله والاحتجاج به . وقد تكرر الأمر في الكتاب العزيز بالسير في الأرض والحث عليه . فمنه ما جاء في خطاب المشركين كآية الأنعام ومثلها في النحل والنمل والعنكبوت ويوسف وفاطر وغافر . ومنه ما جاء في خطاب المؤمنين كآية آل عمران ( 3 : 137 ) ومثلها آية سورة الروم ( 30 : 42 ) ومنه ما يحتمل العموم والإطلاق ويؤيد ذلك وصف المؤمنين والمؤمنات في القرآن بالسائحين والسائحات في سورتي التوبة والتحريم ، وإن فسرها بعضهم فيهما بالصيام وهو تأويل بعيد ، وكذا تخصيص سهم من مال الزكاة لأبناء السبيل وهم الرحالون الذين ينقطعون بالأسفار عن أوطانهم ومعاهد كسبهم ، حتى كأن السبيل لكل منهم أبوه وأمه لأنه لا يكاد يفارقه ، وانظر أحكام السفر وفوائده في الأصل التالي . العبرة بعموم اللفظ دون السبب
( الأصل الرابع عشر ) في أثناء السير في أرضها ورؤية آثارها وسماع أخبارها كما بينا ذلك في تفسير الآية التي استدللنا بها آنفا على الأصل السابق وهي ( النظر في أحوال الأمم وعواقب الأقوام التي كذبت الرسل قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) ( 11 ) . وهذا النظر والاعتبار لا خلاف بين العلماء في وجوبه شرعا ، وكونه مطلوبا لذاته ومقصودا من السياحة والسير في الأرض ، وإنما اختلفوا في السفر نفسه إذا لم يقصد به ذلك ، فذهب بعضهم إلى إباحته كما تقدم وبعضهم إلى وجوبه . والحق أن القرآن قد بين للسفر فوائد أخرى علل بها الأمر به والحث عليه ، وأن الأصل فيه الإباحة ، وقد يكون واجبا إذا كان لأمر واجب كالحج والجهاد الشرعي والنظر والاعتبار الذي هو موضوع هذا الأصل من أصول فوائد سورة الأنعام - وقد يكون مندوبا إذا كان لطلب التوسع في العلوم ، وأما العلم الذي هو فرض عين فالسفر لطلبه إذا تعذر تحصيله بدونه يكون فرض عين . الذي هو فرض كفاية ومنه الفنون والصناعات التي يتوقف عليها حفظ البلاد وشئون المعاش والصحة . . . تأثم الأمة كلها إذا لم يقم به من تحصل بهم كفاية الأمة والبلاد . وقد يكون محرما أو مكروها إذا قصد به عمل محرم أو مكروه ، كالذين يسافرون إلى والسفر لطلب العلم أوربة لأجل الفسق .
وأجمع الآيات لتكميل النفس بالسفر من طريق الدراية المستفادة بالنظر والاكتشاف [ ص: 256 ] والاعتبار ، وطريق الرواية والتلقي عن أهل العلم والبصيرة والاختبار قوله تعالى في سورة الحج : ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ( 22 : 46 ) .
وقد نبهت آية آل عمران إلى أصل من أعظم أصول العلم التي تستفاد من السياحة واختبار أحوال الأمم ، وهو ، المعبر عنه في هذا العصر بعلم الاجتماع وهي : ( العلم بسنن الله في شئون البشر العامة قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا ) ( 3 : 137 ) الآية . ونبهت آية العنكبوت إلى أصل آخر وهو البحث فيما يتعلق ببدء الخلق من الآثار ؛ ليكون من فوائده قياس النشأة الآخرة على النشأة الأولى وذلك قوله تعالى : ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) ( 29 : 20 ) الآية . ونبهت الآية الأولى من آيتي سورة الروم إلى النظر في أحوال الأمم وآثارها الخاصة بالقوة الحربية وموارد الثروة الزراعية وسائر شئون العمران ، وكيف كان عاقبة ذلك وأسبابه ، ليعلم أن القوة والثروة لا تحول دون هلاك الأمة إذا استحقت ذلك بالظلم وكفر النعمة وهي ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ) ( 30 : 9 ) إلخ . وفي معناها آية فاطر ( 35 : 44 ) وهي خاصة بمسألة القوة ، ولكنها جاءت بعد بيان سنة الله في الأولين ، وأن سنن الله لا تبديل لها ولا تحويل ، فهي ترشد بموقعها إلى البحث عن تلك السنن . وفي معناها آيتا سورة غافر ( 40 : 21 و 82 ) فهما ترشدان إلى ، فتزيد على ما قبلها الإرشاد إلى الاستفادة من صناعات الأولين وطرق كسبهم ، والاعتبار بكونها لم تكن واقية لهم مع قوتهم الحربية من عذاب الله إياهم بذنوبهم وكفرهم . الاعتبار بقوة الأمم وآثارها في الأرض
وقد ذكرنا هذه الأمهات من أصول علوم الاجتماع والعمران على سبيل الاستطراد اختصارا ، وهو كاف لتذكير مسلمي هذا العصر بأن في أمري المعاش والمعاد . القرآن قد أرشد البشر إلى جميع وسائل سعادة الأمم والأفراد
( الأصل الخامس عشر ) فقال : ( جعل الله الظلم سببا لهلاك الأمم وإبادة الأقوام فقطع دابر القوم الذين ظلموا ) ( 45 ) وقال : ( هل يهلك إلا القوم الظالمون ) ( 47 ) وقال : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) ( 82 ) وقال : ( فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ) ( 135 ) والظلم أنواع قد بين في هذه السورة بعضها ، والحق أن المراد في مثل هذه الآيات الظلم العام ( راجع تفسير الشاهد الأخير في الآية 135 ) .
( الأصل السادس عشر ) لمعرفة [ ص: 257 ] سنن الله وحكمه ، وآياته الكثيرة فيها الدالة على علمه وحكمته ومشيئته وقدرته وفضله ورحمته ، ولأجل الاستفادة على أكمل الوجوه التي ترتقي بها الأمة في معاشها وسيادتها ، وتشكر فضل الله عليها ، وقد جعلنا هذا النوع من هداية السورة أصلا واحدا وهو أصول تتعلق بكثير من العلوم المتعلقة بالمواليد الثلاثة وغيرها ، وإنما غرضنا بذكر هذه الأصول التذكير والإشارة ، ويمكن للقارئ أن يأخذ من هذا الأصل إرشاد القرآن إلى جميع العلوم النباتية والحيوانية والإنسانية - من جسدية ونفسية - والفلكية والجوية والحسابية . الترغيب في علوم الكائنات والإرشاد إلى البحث فيها
ولو لم يرد في هذه السورة إلا الآيات الخمس المتصلة من قوله تعالى : ( إن الله فالق الحب والنوى ) ( 95 ) إلى قوله : ( لآيات لقوم يؤمنون ) ( 99 ) لكفى ، فراجع تفسيرها في ( ص524 - 537 ج 7 ط الهيئة ) وفي معناها في النبات ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات 141 ) الآيات . ومثلها في الحيوان خاصة آية 38 التي تذكر في الأصل الذي بعد هذا .
( الأصل السابع عشر ) العناية بحفظ أنواع الحيوان والرفق بما سخره الله منها للإنسان ، وبغيره . يؤخذ هذا من قوله تعالى : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) ( 38 ) فقد استنبط النبي صلى الله عليه وسلم منها فقال : " حظر قتل الكلاب " الحديث . رواه لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها أبو داود عن والترمذي بسند صحيح . عبد الله بن مغفل
وقد استدلت إحدى الصحابيات بالآية على وجوب كما ذكرناه في تفسيرها ، وذكرنا في المعنى بعض الأحاديث المرفوعة ، وهنالك أحاديث أخرى أبلغ منها معروفة في محلها وراجع تفسير الآية ( ص 326 - 336 ج 7 ط الهيئة ) . الرفق بالحيوان وتحريم تعذيبه
( الأصل الثامن عشر ) إثبات أن ما أمر الله تعالى الناس باتقائه من الشرك وكفر النعم والظلم والفواحش والمنكرات . والآية 32 نص صريح في ذلك وقد ذكرنا في تفسيرها ما ورد في معناها فراجعه في ( ص 303 - 309 ج 7 ط الهيئة ) . الحياة الدنيا ليست إلا لعبا ولهوا ، وأن الحياة الآخرة خير منها للذين يتقون
والمراد من بيان هذه الحقيقة تحذير العاقل من جعل التمتع بشهوات الدنيا كل همه من حياته أو أكبر همه فيها ، وإن وقف في ذلك عند حد المباح من الزينة والطيبات من الرزق ، ولم يضيع ما لله وما لعباده عليه من حق ، على أن هذا لا يكاد يتفق لمن كان ذلك أكبر همه ، ذلك بأن متاع الدنيا قليل ، وأجله قصير ، وهو مشوب بالمنغصات ، وعرضة للآفات ، والذي لا هم له فوقه يسرف فيه فيظلم نفسه ويظلم غيره ، وإننا نرى أهل الحضارة المادية في هذا العصر قد وصلوا إلى درجة رفيعة من العلوم العقلية والأدبية والاجتماعية ولم تكن بصارفة لهم عن [ ص: 258 ] افتراس أقويائهم لضعفائهم ، فضلا عن الضعفاء الذين هم دونهم في حضارتهم أو من غير أبناء جنسهم ، وقد انتهوا في الخبث والشر والظلم والفتك إلى غاية لم يعرفها تاريخ البشر في أشد المتوحشين جهلا .
( الأصل التاسع عشر ) أن حجرا كان أو شجرا أو حيوانا أو إنسانا ؛ لأن ذلك قد يفضي إلى ما هو شر منه ، وهو أن يسب أولئك المشركون الله تعالى عدوا بغير علم على إيمانهم به ، ويثير العداوة ويورث الأحقاد بينهم وبين المسلمين ويكثف الحجاب الذي يحجبهم عن الإسلام على قبح السب في نفسه ، وكونه غير لائق بالمسلم ولا من شأنه ، كما ورد في حديث " من آداب الإسلام المحتمة أن يتحامى المسلمون سب ما يعبده المشركون " والأصل في هذا الأدب العالي وما يهدي إليه من الآداب الأخرى في المعاملات العامة قوله تعالى : ( المسلم ليس بسباب ولا لعان ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ) ( 108 ) الآية - فراجع تفسيرها في ( ص 553 - 558 ج 7 ط الهيئة ) من آخر الجزء السابع وفيه بحث عصبية المذاهب والأديان ، وما تفضي إليه من الفساد والطغيان ، وما يتعلق بذلك ويرد عليه من الشبهات .
( الأصل العشرون ) ، أي جعل ما بينهم من الاختلاف والتفاوت في الصفات والمزايا الوهبية والكسبية مما يختبر به استعداد الأفراد والشعوب في التنافس والمسابقة إلى ما يفضل به بعضهم على بعض ، فمنهم من سلك في ذلك سبيل الحق والخير ومنهم من سلك طرق الباطل والشر ؛ ولذلك ينتهي الاختبار تارة بارتقاء كل من المتنافسين في العلوم والأعمال النافعة . وتارة ينتهي بالرزايا والنكال لكل منهما ، وتارة ينتهي بارتفاع فريق إلى أعلى الدرجات ، وهوي الآخر إلى أسفل الدركات . وكان الواجب على المسلمين أن يكونوا أول المهتدين بهذا الإرشاد الإلهي في منافستهم لغيرهم ومنافسة غيرهم لهم ، وذلك قوله تعالى في آخر السورة : ( ابتلاء الناس بعضهم ببعض وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم 165 ) فعسى أن يتوبوا ويتوب الله تعالى عليهم ، ويعود برحمته الخاصة عليهم ، فيرفع عنهم ما نزل بهم من الأرزاء ، ويعيد إليهم ما سلبهم من الآلاء ، وهو الغفور الرحيم ، ذو الفضل العظيم .
( الأصل الحادي والعشرون ) ورحمة الرب الغفور ، بإيجابه ذلك على نفسه ، بسننه في خلقه ووعده في كتابه ، لا بتأثير مؤثر ولا إيجاب موجب ولا محاباة شافع ، والآية 54 من هذه السورة نص في هذا الإيجاب الشرعي إذ قال : ( التوبة الصحيحة مع ما يلزمها من العمل الصالح توجب مغفرة الذنوب كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ) [ ص: 259 ] وأما إيجابها بمقتضى سنن الله تعالى فهو أن شعور بالألم والامتعاض من الذنب ، والحياء من الله والخوف من سخطه وعقابه عليه ، ولوم النفس الذي يسميه بعضهم توبيخ الضمير ، وهذا يستلزم بسنة الفطرة البشرية تركه والإتيان بعمل يضاده ويذهب بأثره من النفس وقد عرف مبدأ التوبة رحمه الله تعالى التوبة : بأنها مركبة من علم وحال وعمل ، فالعلم بقبح المعصية وكونها سببا لسخط الله وعذابه يوجب الحال وهو ألم النفس الذي ذكرناه آنفا . وهذا الحال يوجب العمل الشامل لترك الذنب وتكفيره بالعمل الصالح ولا سيما إذا كان مضادا له . ويراجع تفسير الآية ( ص 375 وما بعدها ج 7 ط الهيئة ) ثم تفسير الآيات التي يحيل عليها في تفصيل المسألة . أبو حامد الغزالي
وقد أخرنا هذا الأصل لتذكير الأفراد والأقوام من هذه الأمة التي جعل الله تعالى هذا الكتاب إمامها ، بما يجب عليها من التوبة عن مخالفة ما هداها إليه من دين الله القويم وصراطه المستقيم ، وتنكب ما أرشدها إليه من سننه في خلقه .
هذا ما تيسر التذكير به من أصول علوم الدين والدنيا في هذه السورة بقدر ما تذكرناه وقت كتابته . والفكر في بلبال والقلب في آلام ، والزمن غير مساعد على محاولة الاستقصاء على أن ، فهي تتجدد في كل زمان ويهب الله منها الأواخر ما لم يهب الأوائل ، ويمنح بعض الضعفاء مالا يمنح الأقوياء . وقد أدمجنا في هذه الأصول وفي الكلام على أركان العقائد الثلاثة قبلها أصولا كثيرة لو بسطت لطال الكلام كأنواع شهادة الله لرسوله بصدقه . ومعجزات القرآن وعلومه المشار إليها في الآيتين 114 ، 115 ، وأعداء الرسل وتغريرهم والانخداع بها في الآيتين قبلهما وهن في أول هذا الجزء وغير ذلك مما ألممنا ببعضه وبهذا نختم تفسير هذه السورة . ونسأله تعالى أن يلهمنا الصواب . ويجعلنا ممن تاب وأناب ، ويوفقنا لإتمام تفسير الكتاب ويؤتينا فيه الحكمة وفصل الخطاب آمين . الإحاطة بعلوم القرآن ليست في استطاعة إنسان