( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون )
بينا في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآيات : أنهما بدء للإنذار - بعد بيان أصل الدعوة إلى الإسلام - بالتذكير بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا ، وهذه الآيات تذكير بعذابهم في الآخرة ، قفى به على تخويف قوم الرسول من مثل ذلك العذاب العاجل ، بتخويفهم مما يعقبه من العذاب الآجل ، وهو الحساب والجزاء في الآخرة .
( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) عطف هذا على ما قبله بالفاء لأنه يعقبه ويجيء بعده ، إذ كان ذلك العذاب المعبر عنه باليأس آخر أمرهم في الدنيا . وقيل : إن " الفاء " هنا هي التي يسمونها الفصيحة ، وقد أكد الخبر بلام القسم ونون التوكيد ، لأن المخاطبين من العرب في أول الدعوة كانوا ينكرون البعث والجزاء ، ولتأكيد الخبر تأثير في الأنفس [ ص: 280 ] ولا سيما خبر المشهور بالأمانة والصدق كالنبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يلقبونه قبل البعثة بالأمين ، والمراد بالذين أرسل إليهم جميع الأمم التي بلغتها دعوة الرسل ، يسأل تعالى كل فرد منهم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته ، وبماذا أجابوهم وما عملوا من إيمان وكفر ، وخير وشر ، ويسأل المرسلين عن التبليغ منهم والإجابة من أقوامهم .
بين هذا الإجمال في آيات منها قوله تعالى في سورة الأنعام : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) ( 61 : 130 ) وفي سورة القصص : ( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ) ( 28 : 65 ) وفي سورة العنكبوت : ( وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ) ( 13 :29 ) ومثله في سورة النحل : ( ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ) ( 16 : 56 ) وهو ما ابتدعوه في الدين كجعلهم لمعبوداتهم نصيبا مما رزقوا من الحرث والأنعام ، يتقربون إليهم بها بنذر أو غيره ، ويتقربون بهم إلى الله كما تقدم في سورة الأنعام ، ومنه ما ينذره القبوريون لأوليائهم ، وأعم منه قوله تعالى في النحل أيضا : ( ولتسألن عما كنتم تعملون ) ( 16 : 93 ) وهو خطاب لجميع الناس ، ومثله في التأكيد والعموم قوله في سورة الحجر : ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) ( 15 : 92 ، 93 ) ومنه في السؤال عن المشاعر الظاهرة والباطنة : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) ( 7 : 36 ) وقال تعالى في سؤال الرسل : ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ) ( 5 : 109 ) وتقدم تفسيره في الجزء السابع .
قال في تفسير الآية : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ، ونسأل المرسلين عما بلغوا . ونحوه عن ابن عباس ، وقيل : إن " الذين أرسل إليهم " هم الأنبياء المرسلون ، و " المرسلين " هم الملائكة الذين نزلوا عليهم بالوحي ، وفي رواية : سفيان الثوري جبريل خاصة ، وهو خلاف الظاهر : فإن كما قال تعالى : ( الرسل يسألون ليكونوا شهداء على أقوامهم فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) ( 4 : 41 ) ولا حاجة إلى شهادة الملائكة على الرسل لئلا ينكروا الرسالة ، فما هي ذنب يتوقع إنكاره منهم لو لم يكونوا معصومين من ذلك . وفي السؤال العام وما يسأل عنه الناس أحاديث سيأتي بعضها .
فإن قيل : هذه الآيات تثبت ، فما معنى قوله تعالى في سورة القصص : ( السؤال العام يوم القيامة وهو يشمل العقائد والأعمال وهي حسنات وسيئات ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) ( 28 : 78 ) وفي سورة الرحمن : ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) ( 55 : 39 ) قلنا : قد أجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة أشرنا في تفسير آية الأنعام ( 6 : 129 ) إلى بعضها ، وهو أن للقيامة مواقف يعبر عنها باليوم والسؤال والجواب والاعتذار [ ص: 281 ] يكون في بعضها دون بعض . والصواب أن نفي السؤال عن الذنب في آية الرحمن لا إشكال فيه لأن ما بعد الآية يفسرها بأن المراد لا يسأل أحد عن ذنبه لأجل أن يعرف المجرم ويمتاز من غيره ، إذ قال بعدها : ( يعرف المجرمون بسيماهم ) ( 55 : 41 ) وهو استئناف بياني ، كأنه قيل : لم لا يسألون وبم يعرف المجرمون منهم ويمتازون من المسلمين ؟ فقال : ( يعرف المجرمون بسيماهم ) ولا مندوحة عن حمل آية القصص على هذا المعنى وهو مروي عن كالأول ، وروي عنه أيضا أن المذنب لا يسأل عن ذنبه هل أذنبت أو هل فعلت كذا من الذنوب ؟ أي لأن الله تعالى أعلم منه بذنوبه وقد أحصاها عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وهو يجد ما عمل حاضرا في كتابه متمثلا في نفسه ، معروضا لها فيما يشهد عليه من أعضائه وجوارحه - وإنما يسأله لم عمل كذا - أي بعد أن يعرف به ، وهو يتفق مع تفسيره هنا لقوله عز وجل : ابن عباس