[ ص: 324 ] ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) الجملة تعليل للنهي عن تمكين الشيطان مما يبغي من الفتنة ، وتأكيد للتحذير منه والتذكير بعداوته وضرره ، وذلك أنه يرانا هو وقبيله أي جنوده وذريته من شياطين الجن ولا نراهم ( وأصل القبيل : الجماعة كالقبيلة وخص بعضهم القبيلة بمن كان لهم أب واحد والقبيل أعم ) و ( حيث ) ظرف مكان ، أي يرونكم من حيث يكونون غير مرئيين منكم ، والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان خطره أكبر ، ووجوب العناية باتقائه أشد ، كاتقاء أسباب بعض الأدواء والأوبئة التي تثبت في هذا الزمان برؤية العينين بالمجهر - أي المرآة أو النظارة المكبرة للمرئيات - وهو أن لكل داء منها جنة من الديدان أو الهوام الخفية تنفذ إلى البدن بنقل الذباب أو البعوض أو القمل أو البراغيث ، أو مع الطعام أو الشراب أو الهواء ، فتتوالد وتنمى بسرعة عجيبة حتى تفسد على المرء رئته في داء السل ، وأمعاءه في الهيضة الوبائية ، ودمه في الطاعون والحميات الخبيثة ، وقد أشير في الحديث إلى سبب الطاعون فيما ورد من أنه من وخز الجن ، وإلى داء السل فيما ورد من تحول الغبار في الصدر إلى نسمة .
وفعل جنة الشياطين في أنفس البشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء الميكروبات في أجسادهم ، وفي غيرها من أجسام الأحياء : تؤثر فيها من حيث لا ترى فتتقى . وإنما ينبغي للعقلاء أن يأخذوا في اتقاء ضررها بنصائح أطباء الأبدان - ولا سيما في أوقات الأوبئة - كاستعمال المطهرات الطبية والتوقي من شرب الماء الملوث بوصول شيء إليه مما يخرج من المصابين بالهيضة أو الحمى التيفوئيدية ، إلا أن يغلى ثم يحفظ في آنية نظيفة وغير ذلك . ولو كانوا يرون تلك الجنة بأعينهم كما يراها الأطباء بمجاهرهم لاتقوها من غير توصية بقدر طاقتهم . والوقاية نوعان : أحدهما اتخاذ الأسباب التي تمنع طروءها من الخارج ، كالذي تفعله الحكومات في المحاجر الصحية في ثغور البلاد ومداخلها ، أو في أمكنة بعيدة عنها كجزائر البحار للوقاية العامة للبلاد كلها . أو في بعض البلاد دون بعض ، ومثله ما يتخذه أهل البيوت لوقاية بيوتهم .
والنوع الثاني : تقوية الأبدان بالأغذية الجيدة والنظافة التامة لتقوى على منع فتك هذه الجنة فيها إذا وصلت إليها ، كما يتقى تولد السوس في حب الحصيد بتجفيفه ووضع بعض المواد الواقية فيه ، وكما يتقى وصول العث إلى الثياب الصوفية بمنع وصول الغبار إليها ، أو بوضع الدواء المسمى بالنفتالين بينها ، وهو يقتل العث برائحته .
كذلك يجب الأخذ بإرشاد طب الأنفس والأرواح في وقايتها من فتك جنة الشياطين فيها بالوسوسة التي تزين للناس الأباطيل والشرور المحرمة في هذا الطب لشدة ضررها - ولم يحرم الدين شيئا على الناس إلا لضرره وإفساده - فإن مداخلها في أنفسهم ، وتأثيرها في [ ص: 325 ] قلوبهم وخواطرهم ، كدخول تلك في أجسادهم ، وتأثيرها في أعضائهم من حيث لا ترى واتقاؤها كاتقائها نوعان :
أحدهما : والتخلق بالأخلاق الكريمة والفضائل ، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير حق ؛ حتى ترسخ فيه ملكات الخير ، وحب الحق ، وكراهة الباطل والشر - فحينئذ تبعد المناسبة بينها وبين تلك الأرواح الشيطانية التي تدعو إلى الباطل والشر فتبعد عنها ، ولا تطيق الدنو منها ، كما هو شأن العث مع الثوب المشبع برائحة النفتالين ، بل الجعل مع عطر الورد أو الياسمين ، وهؤلاء المتقون هم عباد الله المخلصون ، الذين ليس للشيطان عليهم من سلطان كما بينه تعالى بقوله في بيان هذه الحقائق الفطرية الواردة بأسلوب الخطاب بين الشيطان وبين الرب تبارك وتعالى من سورة الحجر : ( تقوية الأرواح بالإيمان بالله تعالى وصفاته ومراقبته ومناجاته وإخلاص العبادة له قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) ( 15 : 39 - 42 ) وقد تقدم هذا وأمثاله في تفسير القصة ، وهذا الصراط المستقيم في الآية هو سنته تعالى في الخلقة الروحية بأن الروح الكامل المهذب بالتقوى والإخلاص لا تؤثر فيه الوسوسة الشيطانية ولا تتمكن منه ، وهذا هو معنى نفي سلطان الشيطان عنه ، كما أن الميكروبات والهوام لا تجد لها مأوى في الأجساد النظيفة الطاهرة القوية .
والنوع الثاني - من هذه بتأثير تلك الهوام الخفية فيه ، بالأدوية التي تقتلها وتمنع امتداد ضررها . وأول ما يجب في ذلك بعد التنبيه والتذكر لما حصل بسبب الوسوسة من فعل معصية أو ترك واجب ، أن تترك المعصية ويؤدى الواجب ويتوب العاصي كما تاب أبونا التقوى - ما يعالج به الوسواس بعد طروئه ، كما يعالج المرض بعد حدوثه آدم وزوجه عليهما السلام ، وأن يستعان على ذلك بذكر الله تعالى بالقلب والتضرع إليه باللسان كما فعل أبوانا بقولهما : ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) ( 23 ) الآية . وفاقا لما ذكرنا في معالجة الأمراض البدنية ، وسيأتي تفصيل القول في تأثير ذكر الله تعالى في معالجة الخواطر الرديئة والأفكار الباطلة التي تحدثها هذه الوسوسة في تفسير قوله تعالى في أواخر السورة : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ( 200 ، 201 ) ومنه ما ورد من الحديث الصحيح في رضي الله عنه عمر بن الخطاب من فرار الشيطان ، وكونه ما سلك فجا إلا سلك الشيطان فجا غيره . فضل
[ ص: 326 ] قد سبق لنا بيان مثل هذا التشابه بين تأثير الأحياء الخفية المجتنة في الأجساد وفي الأنفس وقد أعدناه هنا مفصلا لقوة المناسبة ، ولتذكير المؤمنين بأقوى ما يردون به شبهات بعض الماديين الذين ينكرون وجود الجنة والشياطين ؛ لأنهم لا يرونهم ؛ أو لأن وجودهم بعيد عن النظريات والمألوفات عندهم ، على أن أرواحهم الخبيثة التي ينكرون وجودها أيضا هي أوسع الأوطان لهم ، ولو كان الاستدلال بعدم رؤية الشيء على عدم وجوده صحيحا وأصلا ينبغي للعقلاء الاعتماد عليه لما بحث عاقل في الدنيا عما في الوجود من المواد والقوى المجهولة ، ولما كشفت هذه الميكروبات التي ارتقت بها علوم الطب والجراحة إلى الدرجة التي وصلت إليها ، ولا تزال قابلة للارتقاء بكشف أمثالها ، ولما عرفت الكهرباء التي أحدث كشفها هذا التأثير العظيم في الحضارة ، ولو لم تكشف هذه الميكروبات وأخبر أمثالهم بها مخبر في القرون الخالية لعدوه مجنونا ، وجزموا باستحالة وجود أحياء لا ترى يوجد في نقطة الماء الصغيرة ألوف الألوف منها ، وأنها تدخل في الأبدان من خرطوم البعوضة أو البرغوث إلخ . كما أن ما يجزم به علماء الكهرباء من تأثيرها في تكوين العالم ، وما تعرفه الشعوب الكثيرة الآن من تخاطب الناس بها من البلاد البعيدة بآلات التلغراف والتليفون اللاسلكية - كله مما لم يكن يتصوره عقل وقد وقع بالفعل .
فإن كانوا يقولون : إن مقتضى العقل ألا يقبل أحد قول الأطباء في اتقاء ميكروبات الأمراض والأوبئة وفي المعالجة والتداوي منها إلا إذا رآها كما يرونها وثبت عنده ضررها كما ثبت عندهم - فإننا نعذرهم حينئذ في قولهم : إن من مقتضى العقل ألا يقبل أحد قول أطباء الأرواح وهم الرسل عليهم السلام وورثتهم من العلماء الهادين المرشدين في اتقاء تأثير وسوسة الشياطين ، وفي التوبة من سوء تأثيرها بارتكاب المعاصي والشرور - وحينئذ يكون هذا العقل المادي المألوف قاضيا على أصحابه المساكين بفساد أبدانهم وأرواحهم جميعا .
فإن قيل : إن الأطباء قد ثبتت فائدة طبهم وأدويتهم بالتجربة فوجبت عليهم طاعتهم والتسليم لهم بما يقولون - قلنا : إن فائدة طب الأنبياء وورثتهم في هداية الناس وتهذيب أخلاقهم وصلاح أعمالهم أشد ثبوتا ، ولكن هؤلاء الماديين على ضعف عقولهم يؤمنون بكل ما يقوله الأطباء . وإن لم يثبت عندهم بالرؤية ، ولا بنظريات الفكر ، فهم يجتهدون في حفظ أبدانهم من الجهة المادية ، ولكنهم يجهلون ما يجني عليهم كفرهم بالطب الروحي الديني في أرواحهم وأبدانهم جميعا ، فإن هذا الكفر يحصر همهم في التمتع باللذات الدنيوية فيسرفون فيها بما يضعف أبدانهم مهما تكن العناية بها عظيمة ، دع إفساد أخلاقهم وأرواحهم وما يجنيه عليهم وعلى أمتهم وعلى البشر جميعا ، وناهيك بمضار ما يستحلونه من السكر والزنا والقمار وما يستبيحونه من الخيانة للأمة في هذه السبيل ، فلو كان الخونة الذين يتخذهم الأجانب [ ص: 327 ] أعوانا لهم على استعباد أمتهم مؤمنين ، معتصمين بتقوى الله وهدي كتبه ورسله من الطمع وحب الرياسة بالباطل وغير ذلك مما حرمه الله تعالى ، لما خانوا الله وخانوا أمانة أمتهم وأوطانهم اتباعا لشهواتهم ، وطمعا في تأثل الأموال والادخار لأولادهم ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) ( 8 : 27 ، 28 ) .
بل قال أعظم فيلسوف يحترمون عقله وعلمه : إن هذه الأفكار المادية التي تغلبت في أوربة على الفضائل قد محت الحق من عقول أهلها ، فلا يعقلون منه إلا تحكيم القوة ، وستتخبط به الأمم ويتخبط بعضهم ببعض ليتبين من هو الأقوى فيكون سلطان العالم . هذا ما سمعه الأستاذ الإمام من الفيلسوف هربرت سبنسر ( في10 أغسطس سنة 1903 ) وكتبه عنه ، وقد زادنا في روايته اللفظية له عنه ما يدل على أنه كان يتوقع هذه الحرب العامة الوحشية ، ويعدها من سيئات الأفكار المادية وضعف الفضيلة . وقد روينا ذلك عنه بالمعنى من فوائد أخرى في رحلتنا الأوربية ( ج 3 م 23 من المنار ) .