[ ص: 429 ] استطراد في بيان بعض بالهواء والرياح الهواء جسم لطيف مما يعبر عنه علماء الكيمياء بالغاز ، لا لون له ولا رائحة مركب تركيبا مزجيا من عنصرين غازيين أصليين يسمون أحدهما ( الأكسجين ) وخاصته توليد الاحتراق والاشتعال وإحداث الصدإ في المعادن وهو سبب حياة الأحياء كلها من نبات وحيوان وإنسان ، وثانيهما ( الآزوت - أو النيتروجين ) وهو أخف عناصر المادة وزنا وسيأتي ذكر بعض خواصه ومن عناصر أخرى ( كالأيدروجين ) وهو المولد للماء ( وحمض الكربون ) وهو أصل مادة الفحم وغازه السام ( والهليوم والنيون والكريتون ) وهي عناصر اكتشفت من عهد قريب ، وتكثر فيه أنواع الغازات والأبخرة التي تنفصل من مواد الأرض وتختلف كثرة هذه المواد وقلتها باختلاف القرب والبعد من الأرض ، وهو محيط بها إلى مسافة 300 كيلو متر بالتقريب . نعم الله على الخلق
يسمون الهواء عنصر الحياة ، فلولاه لم توجد الحياة الحيوانية ولا النباتية على هذه الأرض فالإنسان وسائر أنواع الحيوان تستنشق الهواء فيطهر ما فيه من الأكسجين دماءها من الكربون السام فيخرج بالتنفس إلى الجو فيتغذى به النبات . ولو احتبس ما يتلد في دم الحيوان من السموم الآلية في صدره لأماته مسموما كما يموت الغريق بعدم دخول الهواء في رئتيه . فمثله في ذلك كمثل مصباح زيت البترول الذي يمد أكسجين الهواء اشتعاله ، ألم تر أنك إذا وضعت على فوهة زجاجة المصباح غطاء محكما ينطفئ نوره سريعا ؟ ولا يستثنى من ذلك الحيوانات المائية كالسمك فإن الهواء الذي يخالط الماء كاف لها .
والنبات يمتص الكربون السام من الهواء فيتغذى به كما تقدم ويدع الأكسجين للحيوان ، فكل منهما يأخذ منه حظه ، ويفيد في الحياة صنوه ، كما قلنا في المقصورة :
والباسقات رفعت أكفها تستنزل الغيث وتطلب الندى تمتلج الكربون من ضرع الهوى تؤثرنا بالأكسجين المنتقى
وكذلك الهواء الذي يتخلل الأرض يساعد جذور النبات على امتصاصها الغذاء من التراب ثم إن السموم التي تنحل في البدن يخرج قسم عظيم منها من مسامه بخارا أو عرقا فيمتصها الهواء ويدفعها إلى الجو الواسع ، ولو انسدت مسام البدن لما كان الهواء الذي يدخل الرئتين كافيا لوقاية الإنسان والحيوان من ميتة التسمم .
[ ص: 430 ] ومن عليها تطهيره سطح الأرض التي نعيش عليها من الرطوبات القذرة ، وما يتولد فيها من جنة الأحياء الضارة " ميكروبات الأمراض " فهو يمتصها ويدفعها في هذا الجو العظيم فيتفرق شملها وتزول قوة اجتماعها ، وقد تموت محترقة بأشعة الشمس فيه ، وينبغي اتقاء الغبار الذي يحملها فقد ورد في الحديث " منافع الهواء التي يغفل أكثر الناس عن شكر الرب تنكبوا الغبار فإن منه النسمة " وهي ذات النفس الحية بل لولا الهواء لتعذر أن يجف ثوب غسل ، بل لكانت الأرض مغمورة بالماء إذا أمكن أن يوجد الماء بغير الهواء ، والعلاقة بينهما معروفة فكل منهما مزدوج بالآخر فالهواء يتخلل المياه ، والمجاور منه للأرض فيه كثير من بخار الماء وهو يقل فيه ويكثر بحسب بعده عن البحار والأنهار وقربه منها ، ومما أثبته علماء الكون المتأخرون أن بخار الماء وإن كان يقل في الطبقات العليا من الجو كقلل الجبال وما فوقها فإن عنصر ( الأيدروجين ) وهو المولد للماء يكثر كثرة عظيمة في أعلى كرة الهواء ، ويقل الأكسجين في طبقات الجو العليا ويكثر بجوار الأرض لثقله النوعي فهو أثقل من صنوه النيتروجين وذلك من لطف الله وحكمته .
ومن المعروف عندهم أن الهواء يتحول بشدة البرد والضغط إلى ماء ثم إلى جليد - كما أن الماء يتبخر بالحرارة حتى يكون هواء أو كالهواء في لطافته وعدم رؤيته ، وقد كان المتقدمون يحسبونهما شيئا واحدا ، وعلماء العرب فرقوا بين بخار الماء وكرة الهواء . ولكن اسم البخار في لغتهم يشمل كل المواد اللطيفة التي تصعد في جو السماء التي يسميها العلماء في هذا العصر " الغازات " والمشهور أن في الهواء من حيث حجمه لا ثقله 21 جزءا في المائة من الأكسجين و 87 في المائة من النيتروجين وواحدا في المائة من الأرغون ، وهذه النسبة تكون هي الغالبة في الهواء المجاور للأرض وهي ضرورية لحياة أكثر الأحياء حياة صالحة معتدلة ، فإذا زاد الأكسجين زيادة كبيرة أو نقص عما هو عليه لم يعد صالحا لحياة الأحياء بل يصير نارا محرقة أوسما زعافا . فكون النيتروجين يزيد على ثلاثة أرباع الأوكسجين في حجم الهواء ضروري لتعديله وجعله صالحا لذلك .
والنيتروجين ضروري للحياة أيضا وإن لم يكن هو صالحا للحياة - فهو إذا وضع فيه حيوان أو نبات لم يلبث أن يموت على أنه غير سام - وضرورته للحياة من حيث تعديله للأكسجين ومنعه إياه من الطغيان ، ومن حيث هو في ذاته ركن من أركان الغذاء للحيوانات ولا سيما العليا منها وأعلاها الإنسان ، فإذا خلا طعامها من المادة النيتروجينية لم يكف لحياتها به .
والنيتروجين يوجد في أجسام النبات كما يوجد في لحم الحيوان وبيضه ولبنه وهو الأصل [ ص: 431 ] فيه ، والنبات يأخذه من الأرض ، وسائر غذاء الحيوانات من المواد النباتية ، ومعظمها من الكربون ، وهو يأخذها من الأرض ومن امتصاصه لغاز الحامض الكربوني من الهواء .
فهذا الغاز على شدة ضرره وقوة سمه في الهواء لمن يستنشقه لابد له منه في ركن المعيشة الأعظم وهو النبات .
إذا كثر هذا الحامض في الهواء فصار واحدا في المائة كان ضارا فإذا زاد على ذلك حتى صار 10 في المائة صار شديد الخطر على الإنسان والحيوان . وهو يكثر في المباني التي يكثر فيها الناس بخروجه من أنفاسهم ، والتي تكثر فيها السرج والمصابيح الزيتية والغازية وكذا الشموع فإنها تولده باحتراقها ، فإذا لم تكن فيها نوافذ متقابلة يدخل الهواء من بعضها ويخرج من الآخر فإن هواءها يفسد به ويتسمم دم من فيها . وقد قال علماء هذا الشأن : إن الإنسان يحتاج إلى أكثر من 16 مترا مكعبا من الهواء في الساعة ، وهو ينفث في كل ساعة 22 لترا من هذا الغاز السام ( الكربون ) فينبغي أن يتقي جميع الناس الاجتماع ونوم الكثيرين في البيوت التي لا يتخللها الهواء ، ولا سيما إذا كان فيها مصابيح موقدة ، وأن يحذروا من وقود الفحم فيها في أيام البرد فإنه سبب مطرد للاختناق كما ثبت علما وتجربة ، إلا إذا وضع في البيت بعد أن تم اشتعاله وذهب غازه في الهواء فلم يبق له رائحة ولا شيء من السواد .
علمنا من هذا أن الخالق الحكيم قد جعل الهواء مركبا من المواد الضرورية لحياة الأحياء كلها ، وجعل النسبة بين أجزائه في كل من الحجم والثقل مناسبة لما يحتاج إليه كل جنس ونوع من النبات والحيوان ، فإذا نقص أحدها بتصرف هذه الأحياء فيه بالتغذي والاستنشاق والنفث بما من شأنه أن يوقع اختلالا وتفاوتا في هذه النسبة كان له من سنن الله تعالى ما يعيد إليه اعتداله ويحفظه له ، كتأثير كل من أشعة الشمس في ورق النبات الأخضر ، ومن تموج البحار في توليد الأكسجين ، وحمل الرياح له إلى الصحاري البعيدة عن الماء الخالية من الأشجار .
تستفيد جميع أنواع النبات والحيوان من الهواء بفطرتها فلا تحتاج إلى علم كسبي ولا إلى عمل صناعي تهتدي بهما إلى التزام منافعه واتقاء مضاره إلا الإنسان فإنه - وهو سيد هذه الموجودات بما خلق مستعدا له من اكتساب العلوم وإتقان الأعمال إلى غير حد يعرف - وهو المحتاج إلى العلم الواسع والعمل المبني على العلم لأجل ذلك وكلما اتسع علمه ودقت صناعته صار أشد حاجة إلى العلم والصناعة ، فأهل البداوة أقل حاجة إلى ذلك من أهل الحضارة لأنهم أقرب إلى حياة الفطرة ، وأقل جناية عليها من أهل الحضارة في أغذيتهم ومساكنهم .
يبني أهل الحضارة الدور فيجعلون في كل دار بيوتا كثيرة ومرافق مختلفة ، فإذا لم يراعوا [ ص: 432 ] فيها تخلل الهواء ونور الشمس لها فسد هواؤها ، وكثرت فيها جنة الأمراض والأدواء التي تفتك بأهلها ، ثم إنهم يحتاجون في جملة ما يقيمون من الدور والدكاكين والمعامل والمدارس والثكنات للسكن والأعمال العامة والتجارة والصناعة والتعليم والجند التي يسمى مجموعها المدينة إلى مثل ما يراعى في كل دار من قوانين الصحة ، كسعة الشوارع والجواد العامة وما يتفرع منها من النواشط الخاصة بطائفة من السكان بحيث يكون الانتفاع بالهواء والشمس عاما ، وينبغي أن يكون للمدينة الكبيرة حدائق وبساتين واسعة مباحة لجميع أهلها لما أشرنا إليه من حاجة الإنسان والحيوان إلى الشجر في اعتدال الهواء ، وليختلف إليها الناس عند إرادة الاستراحة من الأعمال ، وأحوجهم إليها الأطفال يتفيئون ظلالها ويستنشقون هواءها النقي المنعش . فإذا قصروا في هذا انتابت الأمراض من يقيمون في الدور التي لا يطهرها الهواء والنور ، ثم تسري إلى من يخالطهم من سائر طبقات السكان .
وخير الهواء المعتدل بين الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة ، وهو مطهر لباطن البدن كتطهير الحمام لظاهره ، بما يخرج معه من الفضلات الميتة والمواد السامة ، فهذه الفائدة توازي ضرره في عسر التنفس وقلة ما يدخل معه في الرئة من الأكسجين وقلة ما يخرج منها من الكربون السام ، وفي ضعف الهضم واسترخاء الجسم . ومن فوائد الحار إفراز العرق من الجلد
، وهو يحدث حرارة في الباطن بكثرة ما يدخل معه من الأكسجين في الجوف ( وهو مولد الحرارة والاشتعال ) فيحتاج إلى كثرة الوقود الذي يحرقه ، وهو الغذاء ، ولذلك يكثر الأكل ويقوى الهضم في الجو البارد ، وتشتد الحاجة فيه إلى الحركة والعمل لدفع الدم إلى الشرايين التي في ظاهر الجسم لتدفئته ، فهو يفيد الأقوياء الأصحاء ويضر الضعفاء والمصابين ببعض الأمراض الصدرية وغيرها . ومن فوائد البارد تشديد الأعصاب وتنشيط الجسم
فعلم من هذا أنه ينبغي تخفيف الطعام في زمن الحر ، واجتناب الإكثار من اللحم ولا سيما الأحمر منه ومن الحلوى والأدهان ، وجعل معظم الغذاء من البقول والفاكهة .