( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ) .
[ ص: 446 ] قصة صالح عليه السلام
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب والوطن صالحا . سئل الإمام عبد الله بن أبي ليلى عن قال : الأخ في الدار . واستدل بالآية . رواه أبو الشيخ و ( اليهودي والنصراني يقال له أخ ؟ صالحا ) بدل أو عطف بيان لـ ( أخاهم ) وتقدم مثل هذا التركيب آنفا في قصة هود عليه السلام . وثمود قبيلة من العرب قيل : سميت باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح . وقيل ابن عاد بن عوص بن إرم . . وعن عمرو بن العلاء أنهم سموا بذلك لقلة مائهم ؛ فالثمد الماء القليل . وثمود يمنع من الصرف بإرادة القبيلة إذ يجتمع فيه العلمية والتأنيث ويصرف بتأويل الحي أو باعتبار الأصل فإنه علم لمذكر وكانت مساكنهم الحجر ( بكسر المهملة - ) بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وهي معروفة إلى الآن . وعن الحافظ البغوي في نسبه عليه السلام أنه صالح بن عبيد بن أسيف بن ماشخ بن عبيد بن حاذر بن ثمود . ومثله في فتح الباري إلا أنه ضبط حاذر بالجيم حاجر ، وزاد بعد ثمود بن عابر بن آدم بن سام بن نوح .
( قد جاءتكم بينة من ربكم ) قد علمنا من سنة القرآن وأساليبه في قصص الأنبياء مع أقوامهم أن المراد بها عليهم الصلاة والسلام ؛ لأن حوادث الأمم وضوابط التاريخ مرتبة بحسب الزمان أو أنواع الأعمال ، وقد حكي هنا عن العبرة والموعظة ببيان سنن الله تعالى في البشر وهداية الرسل صالح عليه السلام أنه ذكر الآية التي أيده الله بها عقب ذكر تبليغ الدعوة ، وفي قصته من سورة هود أنه ذكر لهم الآية بعد ردهم لدعوته ، وتصريحهم بالشك في صدقه ، وزاد في سورة الشعراء طلبهم الآية منه ، وكل ذلك صحيح ومراد ، وهو المسنون المعتاد ولا منافاة بين ذلك التفصيل وهذا الإجمال ، والمروي أن هذه السورة ( الأعراف ) نزلت بعد تينك السورتين فتفصيلهما لإجمالها جاء على الأصل المألوف في كلام الناس ، وإن كان غير ملتزم في القرآن ؛ على أن والمعنى : قد جاءتكم آية عظيمة القدر ، ظاهرة الدلالة على ما جئتكم به من الحق ، فتنكير الآية للتعظيم والتفخيم - وقوله : ( من ربكم ) للإعلام بأنها ليست من فعله ولا مما ينالها كسبه عليه السلام ، وكذلك سائر ترتيب السور لم يراع فيها ترتيب نزولها فليعتبر بذلك الجاهلون الذين يظنون أن الخوارق مما يدخل في كسب الصالحين الذين هم دون الأنبياء ، ولا سيما الذين يسمونهم الأقطاب المتصرفين في الكون ، ولو كانت كذلك لم تكن خوارق ، ولا آيات من الله تعالى دالة على تصديق الرسل في دعوى النبوة ، وعلى كمال اتباع من دونهم لهم فيما جاءوا به من الهداية ؛ إذ كسب العباد ما زال يتفاوت تفاوتا عظيما بتفاوت قوى عضلهم وجوارحهم ، وقوى عقولهم وأرواحهم وعزائمهم ، وتفاوت علومهم ومعارفهم [ ص: 447 ] ولذلك اشتبهت الآيات على كثير من الناس بالسحر والشعوذة ، وما يكون في بعض الناس من التأثير لعلو الهمة وقوة الإرادة . ما يؤيد الله تعالى به الرسل من خوارق العادات
( هذه ناقة الله لكم آية ) هذا بيان مستأنف للبينة ، أي هذه ناقة الله تعالى - أضافها إلى اسمه الكريم تعظيما لشأنها . وقيل : لأنه خلقها على خلاف سننه في خلق الإبل وصفاتها ، وقيل : لأنه لم يكن لها مالك . والمعنى : أشير إليها حال كونها آية لكم خاصة لكم . وبين معنى كونها آية بقوله :
( فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) ومثله في سورة الشعراء إلا أنه وصف العذاب العظيم فهو أليم وعظيم - وفي ( هود ) إلا أنه وصف العذاب بالقريب ، وهو أنه يقع بعد ثلاثة أيام من مسهم إياها بسوء وكذلك كان . وفي سورة القمر : ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر ) ( 54 : 28 ) وفسره قوله تعالى في سورة الشعراء : ( هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ) ( 26 : 155 ) وهو قبل الوعيد على مسها بسوء . والشرب بكسر المعجمة ما يشرب . وفي سورة الشمس : ( كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها ) ( 91 : 11 - 14 ) إلخ . فدل مجموع الآيات على أن ألا يتعرض لها أحد من القوم بسوء في نفسها ، ولا في أكلها ولا في شربها ، وأن ماء آية الله تعالى في الناقة ثمود قسمة بينهم وبين الناقة إذا كان ماء قليلا ، فكانوا يشربونه يوما وتشربه هي يوما وورد أنهم كانوا يستعيضون عنه في يومها بلبنها ، روي هذا عن ابن عباس وقتادة ، فأما الرواية عن الأول فهي تصدق بماء معين معروف كان لشربهم خاصة ؛ إذ ذكر في سورة القمر معرفا وثبت في الحديث الآتي مرفوعا .
وأما الرواية عن الثاني ففيها أن الماء كان لهم ولماشيتهم وأرضهم وهو بعيد بل منقوض بما في سورة الشعراء من تعدد عيون الماء عندهم ، وهو قول صالح لهم : ( أتتركون في ما هاهنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم ) ( 26 : 146 - 148 ) وقد روى أحمد عن عبد الله بن عمر مرفوعا قوم صالح في غزوة تبوك . وفي أنه كان لهم آبار وأن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على البئر التي كانت تشرب منها الناقة حين مروا بديار عنه أنه صلى الله عليه وسلم البخاري قال العلماء : وقد علمها بالوحي . ولا يصح شيء يحتج به في أمرهم أن يستقوا منها ويهريقوا ما استقوا من غيرها من تلك الآبار أو من هضبة من الأرض كما روي عن خلق الناقة من الصخرة أبي الطفيل .
والمتبادر إلى الذهن من إضافة الأرض إلى الله تعالى أن المراد بها المباحة للأنعام أن ترعى ما ينبت فيها من الكلإ وغيره دون ما يزرعه الناس ويحمونه لأنفسهم ، وفيه مراعاة النظير [ ص: 448 ] بين ناقة الله وأرض الله ، أي : فذروا واتركوا ناقته تأكل من أرضه التي خلقها وأباحها لخلقه . والمتبادر من تنكير السوء في سياق النهي أن الوعيد مرتب على أي أنواع الإيذاء لها في نفسها أو أكلها أو شربها كما تقدم فكيف وقد عقروها ! .
( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ) أي وتذكروا إذ جعلكم الله تعالى خلفاء لعاد في الحضارة والعمران والقوة والبأس وبوأكم في الأرض ، أي أنزلكم فيها وجعلها مباءة ومنازل لكم : تتخذون من سهولها قصورا زاهية ، ودورا عالية ، بما حذقتم بإلهامه تعالى من فنون الصناعة كضرب الآجر واللبن والجص وهندسة البناء ودقة النجارة . وتنحتون الجبال أي بعضها كما قال في آية أخرى : ( من الجبال ) ( 26 : 149 ) بيوتا بما علمكم من فن النحت ، وآتاكم من القوة والصبر ، قيل : إنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء لما في البيوت المنحوتة فيها من القوة التي لا تؤثر فيها الأمطار والعواصف ، ويسكنون السهول في سائر الفصول لأجل الزراعة والعمل ، ولم تكن القصور فيها متينة ولا الطرق مرصوفة ، بحيث يرتاح سكانها في أيام الأمطار الشديدة .
( فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) أي فتذكروا نعم الله تعالى عليكم في ذلك كله واشكروها له بتوحيده وإفراده بالعبادة ، واستعمالها فيما فيه صلاحكم ، ولا تستبدلوا الكفر بالشكر فتعثوا في الأرض مفسدين . يقال : عثى يعثى وعثي يعثي ، " من بابي ضرب وعلم " عثيا وعثيانا وعثا يعثو عثوا بمعنى أفسد وكفر وتكبر ومثله مقلوبة : عاث يعيث عيثا وعيثانا . وفيه معنى الإسراف والتبذير مع الإفساد وقال الراغب : العيث والعثي يتقاربان نحو جذب وجبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا ، والعثي فيما يدرك حكما اهـ . والمعنى : ولا تتصرفوا في هذه النعم تصرف عثيان وكفر بمخالفة ما يرضي الله فيها حال كونكم متصفين بالإفساد ثابتين عليه . وقال المفسرون : إن مفسدين حال مؤكدة ، والصواب أنها تفيد معنى زائدا على التأكيد كما علمت .
( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ) مضت سنة الله تعالى بأن يسبق الفقراء المستضعفون من الناس إلى إجابة دعوة الرسل واتباعهم وإلى كل دعوة إصلاح ؛ لأنه لا يثقل عليهم أن يكونوا تبعا لغيرهم وأن يكفر بهم أكابر القوم المتكبرون ، والأغنياء المترفون ؛ لأنه يشق عليهم أن يكونوا مرءوسين ، وأن يخضعوا للأوامر والنواهي التي تحرم عليهم الإسراف الضار . وتوقف شهواتهم عند حدود الحق والاعتدال . وعلى هذه السنة جرى الملأ من قوم صالح في قولهم للمؤمنين منهم : أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ؟ قيل : إن السؤال للتهكم والاستهزاء [ ص: 449 ] ولا مانع من جعله استفهاما حقيقيا إذ سألوهم عن العلم بأنه مرسل لارتيابهم في اتباعهم إياه عن علم برهاني ، وتجويزهم أن يكون عن استحسان ما وتفضيل له عليهم . واختيار لرياسته على رياستهم .
( قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون ) أي إنا بما أرسل به دون ما يخالفه من الشرك والفساد مصدقون بأنه جاء به من عند الله تعالى ومذعنون له بالفعل . فإن . ويطمئن به القلب . وتخضع له الإرادة ، وتعمل بهديه الجوارح ، وكان مقتضى مطابقة الجواب للسؤال أن يقولوا نعم ، أو نعلم أنه مرسل من ربه ، أو إنا برسالته عالمون ، ولكنهم أجابوا بما يستلزم هذا المعنى ويزيد عليه ، وهو أنهم علموا بذلك علما يقينيا إذعانيا له السلطان على عقولهم وقلوبهم ، إذ آمنوا به إيمانا صادقا كاملا صار صفة من صفاتهم الراسخة التي تصدر عنها أعمالهم ، وما كل من يعلم شيئا يصل علمه إلى هذه الدرجة . بل من الناس من يعلم الشيء بالبرهان وهو ينفر منه بالوجدان . فيجحده ويحاربه وهو موقن به . استكبارا عنه أو حسدا لأهله ( الإيمان هو التصديق الذي يجزم به العقل وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) ( 27 : 14 ) .
( قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ) ولم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون لأنه يتضمن إثبات أصل الرسالة له ، ولو قالوه لكان شهادة منهم على أنفسهم بأنهم جاحدون للحق على علم لمحض الاستكبار .
( فعقروا الناقة ) أصل العقر الجرح ، وعقر الإبل قطع قوائمها ، وكانوا يعقرون البعير قبل نحره ليموت في مكانه ولا يند ، ثم صار يستعمل بمعنى النحر ، وهو طعنه في المكان المعروف من حلقه بالمنحر . أسند العقر إلى هؤلاء المستكبرين الكافرين ، وقيل : إلى جميع الكفار من القبيلة - والمتعاطي له واحد منهم - لأنه بتواطئهم ورضاهم كما قال في آية القمر : ( فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ) ( 54 : 29 ) وفي حديث مرفوعا " البخاري كأبي زمعة " ومثل هذا من أعمال الأمم ينسب إليها في جملتها ، كما أنها تعاقب عليه في جملتها ، ولو بقي الصالحون فيها لأصابهم العذاب ( فانتدب لها رجل ذو عز ومنعة في قومه واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) ( 8 : 25 ) وقد روي عن قتادة أن قال : لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون : أترضين ؟ فتقول : نعم ، وعلى الصبي . . . حتى رضوا أجمعين فعقروها . عاقر الناقة
( وعتوا عن أمر ربهم ) أي تمردوا مستكبرين عن امتثال أمر ربهم ، ضمن العتو معنى الاستكبار ، والعتو في اللغة : التمرد والامتناع ، ويكون عن ضعف وعجز ومنه عتا الشيخ وبلغ من الكبر عتيا : إذا أسن فامتنع من المواتاة على ما يراد منه - وعن قوة وعتو كوصف الريح [ ص: 450 ] الشديدة بالعاتية ، ومنه عتو الجبارين والمستكبرين ، وتوصف النخلة العالية بالعاتية لامتناعها على من يريد جناها إلا بمشقة التسلق والصعود . روى أحمد والحاكم بإسناد حسنه الحافظ ابن حجر عن جابر قال : بالحجر قال : " لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح وكانت الناقة ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم ، وكانت تشرب يوما ويشربون لبنها يوما ، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله - وهو أبو رغال - فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه . لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم
( وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ) نادوه باسمه تهوينا لشأنه وتعريضا بما يظنون من عجزه ، وقالوا ! ائتنا بما أوعدتنا به من العذاب ولا تزال مصرا عليه ومعلقا له على مس الناقة بسوء - إن كنت من المرسلين من عند الله تعالى وتدعي أن وعيدك تبليغ عنه - واستعمل الوعد في الشر لأنه عام .
( فأخذتهم الرجفة ) الرجفة المرة من الرجف ، وهو الحركة والاضطراب يقال رجف البحر إذا اضطربت أمواجه ، ورجفت الأرض زلزلت واهتزت ورجف القلب والفؤاد من الخوف ، وفي حديث الوحي : مكة يرجف بها فؤاده ، وفي سورة هود : ( فرجع إلى وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) ( 11 : 67 ) ونحوه في سورة القمر . وقد اختلف المفسرون في تفسير اللفظين والجمع بينهما . فقيل : الصيحة صيحة جبريل رجفت منها قلوبهم ، وقيل : بل الرجفة الزلزلة أخذتهم من تحتهم ، والصيحة من فوقهم ، وجعل الصيحة سببا ، للزلزلة ومن الغريب أن مثل السيد الزمخشري الآلوسي وهو متأخر واسع الاطلاع ينقل هذه الأقوال ويجمع بين الكلمتين بما ذكر ، ويصحح بحق التعبير عن الصيحة العظيمة الخارقة للعادة بالطاغية ، وهي الكلمة التي وردت في سورة الحاقة ، وينسى كالذين نقل عنهم أنها الصاعقة وهي الأصل كما ورد في سورة : " حم السجدة - فصلت " وفي سورة الذاريات فالأول قوله تعالى : ( فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ) ( 41 : 17 ) والثاني : ( فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ) ( 51 : 44 ) ولنزول الصاعقة صيحة شديدة القوة والطغيان ، ترجف من وقعها الأفئدة وتضطرب أعصاب الأبدان ، وربما اضطربت الأرض وتصدع ما فيها من بنيان وسببها اشتعال يحدثه الله تعالى باتصال كهربائية الأرض بكهربائية الجو التي يحملها السحاب ، فيكون له صوت كالصوت الذي يحدثه باشتعال قذائف المدافع وتأثيره في الهواء ، وهذا الصوت هو المسمى بالرعد كما بيناه من قبل ، وأما الصاعقة فهي الشرارة الكهربائية التي تتصل بالأرض فتحدث فيها تأثيرات عظيمة بقدرها ، كصعق الناس والحيوانات وموتهم ، وهدم المباني أو تصديعها ، وإحراق الشجر والمتاع وغير ذلك . هذا ما وصل إليه علم البشر في هذا العصر ، ومن الدلائل [ ص: 451 ] على صحته أن علمهم بسنة الله تعالى فيه هداهم إلى اتقاء ضرر الصواعق في المباني العظيمة بوضع ما يسمونه قضيب الصاعقة عليها ، فيمتنع بسنة الله نزولها بها . يجوز أن يكون الخالق القادر المقدر قد جعل هلاكهم في وقت ساق فيه السحاب المتشبع بالكهرباء إلى أرضهم بأسبابه المعتادة ، كما يجوز أن يكون قد خلق تلك الصاعقة لأجلهم على سبيل خرق العادة ، وأيا ما كان الواقع فالآية قد وقعت وصدق الله رسوله في إنذار قومه .
( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) دار الرجل ما يسكنه هو وأهله " مؤنثة " وتكون مشتملة على عدة بيوت ، والبلد دار لأهله ، ودار الإسلام الوطن الذي تنفذ فيه شرائعه وهي دار العدل الذي يقيمه الإمام الحق ، ويقابلها دار الكفر ودار الحرب . والجثوم للإنسان والطير كالبروك للإبل ، فالأول وقوع الناس على ركبهم وخرورهم على وجوههم ، والثاني وقوع الطير لاطئة بالأرض في حال سكونها بالليل ، أو قتلها في الصيد ، والمعنى : أنهم لم يلبثوا وقد وقعت الصاعقة بهم أن سقطوا مصعوقين ، وجثموا هامدين خامدين . " وأصبحوا " إما بمعنى صاروا وإما بمعنى دخلوا في وقت الصباح أي حال كونهم جاثمين .
( فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ) في سورة هود أن صالحا عليه السلام أمهل قومه ثلاثة أيام يتمتعون فيها بعد عقر الناقة ، فلما انتهت أنجاه الله تعالى ومن معه من المؤمنين برحمة منه وأنزل العذاب بالباقين الظالمين بعد إنجائه ، وإنما يكون الإنجاء من عذاب صيحة الصاعقة الطاغية المتجاوزة للحد المعتاد بالبعد عن المكان الذي تقع فيه ، وفي هذه الآية أنه تولى عنهم عقب هلاكهم كما يدل عليه العطف بالفاء ، والمعهود في مثل هذا أن تتقدم هذه الآية على ما قبلها في الذكر ، كتقدم مدلولها بالفعل ، ولكن عهد في كلام العرب ترك الترتيب بين المعاني لنكت في الكلام ، ولا سيما كلام يعرف فيه الترتيب بالضرورة أو ما يقرب منها في الظهور ، وجعل بعضهم الآيتين هنا من هذا القبيل بناء على أن ما تضمنته الآية من إعذار صالح إلى قومه بإبلاغهم الرسالة ومحضهم النصيحة ، ومن تسجيله عليهم أفن الرأي وفساد الأخلاق بكره الناصحين وعدم الانتفاع بهم - إنما يكون قبل التولي والانصراف عنهم أو عنده ولكن في حال حياتهم .
وفيه أن هذا وإن كان هو الأصل الذي سبق مثله في قصتي نوح وهود ، إلا أن مثله جائز أن يكون بعد الموت ، وله طريق مسلوك ، وأسلوب معهود ، وآخر مروي مأثور .
فأما الأول فما يقوله المتحسر على من مات جانيا على حياته بالسكر ونحوه ، المعزي لنفسه بأنه لم يقصر في دفع الضر عنه ، والمتحزن لعدم قبوله ما بذل من النصح له : ألم أنهك عن هذه المسكرات ؟ ألم أحذرك عاقبة هذه المخدرات فماذا أفعل إذا كنت [ ص: 452 ] تفضل لذة الساعات والأيام ، على هناء المعيشة المعتدلة في عشرات الأعوام ؟ ونحو هذا مما يقال في أحوال الحزن المختلفة خطابا للموتى بحسب أحوالهم ، بل عهد منهم مخاطبة الديار ، والطلول والآثار .
وأما الثاني فهو ما ورد من نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض قتلى المشركين ببدر بعد دفنهم في القليب " راوي هذا الحديث ، فقال أبو طلحة الأنصاري عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ - أو فيها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسمحمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " رواه يا فلان ابن فلان ! وفلان ابن فلان ! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ " قال وغيره من طريق البخاري قتادة عن رضي الله عنهم ثم قال : قال أبي طلحة الأنصاري قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة حسرة وندما اهـ . قال العلماء : ومثل هذا ، ولكن بعض المتعذرين لعباد القبور بدعاء أصحابها لقضاء حوائجهم يقيسون عليه وعلى ما ورد من حياة الأنبياء والشهداء في البرزخ أن كل من دعا ميتا من الصالحين يسمع منه ويقضي حاجته ، مع العلم بأن أمور عالم الغيب لا يقاس عليها ، وإن لم تكن من الخصائص التي لا يجري القياس فيها . مما خص الله به الأنبياء