" والتحقيق هو أن الله - تعالى - قد تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته ، فإنه قادر والقادر لا يحتاج إلى جوارح ، ولا إلى لهوات ، وكذلك له صوت كما يليق به يسمع ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والحنجرة : كلام الله - تعالى - يليق به وصوته كما يليق به ، ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه لافتقارهما منا إلى الجوارح واللهوات ، فإنهما من جناب الحق تعالى لا يفتقران إلى ذلك ، وهذا ينشرح الصدر له ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف بقوله : هذا عبارة عن ذلك .
" فإن قيل : هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله - تعالى - وعين تكلمه هو ؟ قلنا لا ؛ بل القارئ يؤدي كلام الله - تعالى - ، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مؤديا مبلغا ، ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق ، وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدي عن الكلام المؤدى عنه ، ولهذا " لأنه لا يتميز ، كما منعوا عن منع السلف عن قول " لفظي بالقرآن مخلوق " فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق ، وفي التلاوة مسكوت عنه كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن ، وما أمر السلف بالسكوت عنه ؛ يجب السكوت عنه ، والله الموفق ا هـ . قول " لفظي بالقرآن غير مخلوق
( يقول مؤلف هذا التفسير ) : إن لدينا في تقريب صفة الكلام من الأفهام قولا آخر ، وهو أن جميع ما ثبت في النصوص من صفات الله - تعالى - وشئونه فالتعبير عنه مستعار مما وضعه الناس في اللغة لأنفسهم ، فنفهم بهذه المراد من تلك بقدر الطاقة البشرية ، ونعرف بدليلي العقل والنقل الفرق بينهما ، وأن النسبة بينهما المباينة في الحقيقة ، وقد عبر عن ذلك تعبيرا بليغا في قوله من كتاب الشكر من الإحياء : [ ص: 160 ] " إن لله - عز وجل - في جلاله وكبريائه صفة ، عنها يصدر الخلق والاختراع ، وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها ، فلم تكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها ، وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادئ إشراقها ، فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس ، لا لغموض في نور الشمس ، ولكن لضعف في أبصار الخفافيش ، فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادئ حقائقها شيئا ضعيفا جدا ، فاستعاروا لها اسم القدرة ، فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق ، فقلنا : لله تعالى صفة هي القدرة ، عنها يصدر الخلق والاختراع " ثم ذكر المشيئة والمحبة والكراهة والرضا والغضب ، فلم يفرق بين ما يسمونه صفات المعاني وما يسمونه صفات الأفعال التي يتأولها أصحابه أبو حامد الغزالي الأشعرية تحكما منهم .
ونحن نعلم من أنفسنا أن لنا كلاما هو صفة من صفاتنا ، وشأن من شئوننا تتعلق بما يتعلق به علمنا ، ولكن تعلق العلم عبارة عن انكشاف المعلومات للنفس ، وتعلق الكلام عبارة عن كشفها وتصويرها بما يدل عليها في النفس أو لمن نريد كشفها له ، تقول : حدثتني نفسي بكذا ، وقلت في نفسي كذا ، وفي حديث عمر يوم السقيفة ، " وكنت زورت في نفسي مقالة " يعني : هيأت في نفسي كلاما لأقوله .
وقال الشاعر :
عندي حديث أريد اليوم أذكره وأنت تعلم دون الناس فحواه
وأما أداء الكلام لمن نريد إعلامه ببعض ما نعلم فله طرق أعمها تعبير اللسان ، ويليه تعبير القلم ، والأول غريزة في النطق خاص بالبشر بمقتضاها تواضعوا على الألفاظ الدالة على معاني المعلومات ، فاتسعت بقدر اتساع دائرة علومهم ، والثاني صناعة هداهم الله - تعالى - إليهم بشعورهم بالحاجة إلى إيصال معلوماتهم إلى البعيد عنهم الذي لا يسمع كلامهم اللساني ، وإلى حفظها لمن يجيء بعدهم ، وقد استحدثوا في هذا العصر آلة الخطاب البعيد باللسان سموها ( التليفون ) وسميناها ( المسرة ) بكسر الميم وتشديد الراء - توصل الكلام من دار إلى دار ، ومن بلد أو قطر إلى آخر بأسلاك كهربائية تصل بين آلات المتخاطبين ، وقد استغنوا أخيرا عن هذه الأسلاك في بعض المواضع ، واستحدثوا آلة لحفظ الأصوات الكلامية وغيرها وإعادتها عند الحاجة ، ولو بعد موت صاحبها سموها ( الفونغراف ) وكانوا استحدثوا قبل ذلك آلة لنقل الكلام من مكان إلى مكان في البلد الواحد ، وفي البلاد والأقطار المختلفة بأسلاك كهربائية [ ص: 161 ] موصلة بين الآلات المؤدية للكلام والقابلة له بما هو من قبيل الخط لا الصوت ، وهي الآلة المعروفة بالتلغراف .فكل من هذا وذاك أداء للكلام الذي يقوم في نفس صاحبه ، ويريد إيصاله إلى غيره ، وكل منها يسمى كلامه حقيقة كما يعلم من استعمال العرب الخلص والمخضرمين والمولدين الذين تلقوا عنهما ومن بعدهم ، وللأخطل الشاعر المشهور في دولة بني أمية بيت من الشعر تداوله المتكلمون ، واستشهدوا به على الكلام النفسي والكلام اللفظي ، يفهم منه أن الأول عنده هو حقيقة مدلول الكلمة ، وأن الثاني مجاز مرسل وهو :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فلكلام الإنسان صفة أو ملكة في نفسه يناجيها بها ، ويصور فيها ما ينظمه أو يقدره ويزوره ؛ ليخاطب به غيره ، وصفة أو ملكة في لسانه ، وصفة أو صورة فيما يرسمه بقلمه على الورق ، وصورة أخرى فيما يحرك به آلة التلغراف السلكي أو غير السلكي مخاطبا لبعض الناس في بعض البلاد ، وصورة أخرى في الهواء تحدث عند النطق به زمنا قصيرا ، وقيل إنه أطول مما يظن ، وصورة أخرى فيما ينقشه المكرفون في لوح آلة الفونغراف تكون محفوظة فيه إلى أن تعيده الآلة كما ألقي فيها صوتا مؤلفا من الألفاظ الدالة على المعاني .
وكلام كل أحد ما ينشئه في نفسه ، ويؤديه إلى غيره بطريقة من الطرق التي ذكرناها ، وينقل عن قليل من البشر أنهم قد يؤدون بعض كلامهم الذي في أنفسهم إلى بعض المستعدين بقوة توجيه الإرادة ، وأنهم قد يطلعون على بعض ما يجول في أنفس غيرهم من الكلام ، فمن لم يصدق هذا عنهم فليعد الاعتبار به من ضرب المثل ، ومهما تكن الوسيلة التي وصل بها علم المنشئ للكلام إلى غيره ، فإن غيره يصير مثله في تصوره في نفسه ، وفي تصويره لغيره بالوسائل المشار إليها آنفا ، مثل ذلك قول لبيد - رضي الله عنه - :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
إذا تذكرت هذا كله في كلام الإنسان المخلوق على ضعفه ونقصه ، وأن - وتذكرت مع هذا كمال الخالق وتنزهه عن مشابهة خلقه في ذاته وصفاته وأفعاله - وأنه كلفك الإيمان بوجوده وباتصافه بجميع ما وصف به نفسه من غير تعطيل ولا تشبيه - فأي عثرة يعثر بها عقلك إذا آمنت بأن لله كلاما هو صفة من صفاته الثابتة له أزلا وأبدا ؛ لأنها مرآة علمه الأزلي الأبدي ، وأنه بلغ بعض رسله من الملائكة ما شاء من كلامه ؛ ليوحوه إلى رسله من البر ؛ ليبلغوه لأممهم . كما خاطب الكلام من صفات الكمال التي أثبتها الله - تعالى - لنفسه موسى بما شاء منه ، وأن هذا الكلام واحد على اختلاف تبليغه وحفظه ، فقيامه بذات الله - تعالى - غير تمثله في نفس جبريل ، وفي نفس موسى حين سمعه من وراء حجاب ، وأداء جبريل إياه ونزوله به على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم ، وعلى من قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام غير أداء الله - تعالى - إياه إلى جبريل ، وقيامه في نفس الملك غير قيامه في البشر ، كما أن قيامه في الهواء عند التلفظ به غير قيامه في لوح الفونغراف ، وكلاهما غير قيامه في الصحف ، وكونه على اختلاف صوره ، وطرق أدائه واحدا في كونه كلام الله القديم الأزلي ، كما قلنا في بيت لبيد من كون إنشادنا له ، وكتابتنا إياه اليوم لا ينافي كونه كلام لبيد القديم النسبي غير الأزلي - وكلام الله القديم الأزلي حقيقة أولى ولله المثل الأعلى فلا حاجة تدعو العقل إلى وصفه بأنه مخلوق أو حادث ؛ لأن المخلوقين المحدثين يتناقلونه بألسنتهم وأقلامهم ، وسائر آلاتهم المحدثة ، ولا إلى التقصي من القول بأنه ذو حروف مرتبة ، ولا بأن تلقيه يسمى سماعا ، كقوله - تعالى - : حتى يسمع كلام الله ( 9 : 6 ) .
إذا جعلت هذا البيان وسيلة لفهم ما ورد في الكتاب والسنة من إثبات الكلام لله تعالى ، وكون ما أوحاه إلى رسله عليهم الصلاة والسلام من كلامه تعالى مع اجتناب التعطيل والتشبيه جميعا وفاقا للسلف الصالح ، ومع التقريب بالمثال المناسب لحال هذا العصر في علومه وفنونه فلك بعد هذا أن تجعله مثالا يقرب من عقلك معنى تجلي الرب سبحانه في الصور المختلفة والحجب على تنزهه عن مشابهة تلك الصور والحجب .
قد علمت أن للكلام حقيقة ، ولك - مع أمن اللبس - أن تقول صورة ، هي مظهر العلم في النفس ، ومبدأ إظهار ما شاء العالم المتكلم أن يظهره من علمه لغيره ، وأن له صورا [ ص: 163 ] أخرى في أنفس من ألقي إليهم شيء منه على اختلاف أحوال أنفسهم من ملكية وبشرية وصورا أخرى في الهواء ، وفي الخط على الكاغد ، وفي النقش على ألواح الفونغراف ، وهذه الصور على ما بينها من التباين التام مظاهر لحقيقة واحدة هي ما أراد العالم المتكلم إظهاره من علمه بكلامه كبيت لبيد الشاعر ، وكقوله - تعالى - : قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ( 112 : 1 - 4 ) .
فمن تلقى هذه الصورة من لسان القارئ ، أو من الصورة التي كتبت بها السورة بحروف من الخط الكوفي أو النسخي أو الفارسي أو غيرها ، علم بها من كلام الله عين ما علمه جبريل وموسى ومحمد وغيرهم من الرسل في التلقي عن الله - تعالى - بلا واسطة ، أو التلقي عن جبريل - عليه السلام - ، وهو عين كلام الله - تعالى - القائم بنفسه من حيث إنه من هو المظهر لمعاني هذه السور من علمه ، ومن حيث إنه لا عمل ولا كسب لأحد من المبلغين لها في تأليف عبارتها لا جبريل ولا محمد - عليهما السلام - ، ولا الصحابة الذين بلغوها للتابعين قولا وكتابة ، ولا يقتضي هذا تأويل الكلام الإلهي ولا تعطيله ولا حدوثه ، ولا تشبيهه بكلام خلقه ، كما أن علمه تعالى لا يشبه علم خلقه ، ولا يقتضي أيضا أن نكون قد أدركنا كنه هذه الصفة بفهمنا لما بلغنا تعالى إياه من علمه به ، كما أن إطلاعه إيانا على ما علمه في الأزل وفيما لا يزال من كونه أحدا صمدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد - لا يقتضي إدراك كنه علمه بذلك ، بل نحن لم ندرك كنه كلامنا في أنفسنا ، ولا في الهواء ولا في غيره مما ذكر آنفا .
وكذلك نقول : إن ما ثبت في الصحيح من ، وتعرفه لمن شاء ببعضها دون بعض لا يقتضي حدوثه ولا مشابهته للصور ولا لحجاب النور ، ولا لغيره من خلقه ولا إدراك كنهه - عز وجل - ، ومعرفة المؤمنين له ببعضها دون بعض كمعرفة بعضهم لكلامه بتبليغ اللسان دون الكتابة أو بالكتابة دون اللسان ، وكل ذلك كمال له ، وإنما النقص ما تخيله نفاة الرؤية والصفات من جعل الخالق تعالى معنى سلبيا . تجلي الرب - تعالى - في الصور المختلفة