فخلف من بعدهم خلف أي فخلف من بعد أولئك الذين كان فيهم الصالح والطالح والبر والفاجر ، خلف سوء وبدل شر ، قيل : إن الخلف بسكون اللام يغلب في الأشرار ، وإنما يقال في الأخبار خلف بالتحريك كسلف ورثوا الكتاب الذي هو التوراة عنهم ، وقامت الحجة به عليهم ، فماذا كان شأنهم ؟ الجواب : يأخذون عرض هذا الأدنى أي : يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى ، أي هذا الحطام الحقير من متاع الدنيا ، والمراد به ما كانوا يأكلونه من السحت والرشى ، والاتجار بالدين والمحاباة في الحكم والفتوى ويقولون سيغفر لنا أي : سيغفر الله لنا ، ولا يؤاخذنا بما أذنبنا ، فإننا شعبه الخاص ، سلائل أنبيائه ، ونحن أبناؤه وأحباؤه ، وما هذه الأقوال إلا أماني ، وغرور وأوهام ، قال ابن كثير ، وقال مجاهد : هم النصارى ، وقد يكون أعم من ذلك اهـ . وكل من القولين ينافيه مقتضى السياق ، فأوائل النصارى كانوا صالحين ، وسابق الكلام ولاحقه في اليهود وحدهم وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه أي : يقولون ذلك ، والحال أنهم مصرون على ذنبهم ، إن يأتهم عرض آخر مثل الذي أخذوه أو بالباطل يأخذوه لا يتعففون عنه ، وإنما وعد الله في كتبه بالمغفرة للتائبين الذين [ ص: 323 ] يتركون الذنوب ندما وخوفا من الله ورجاء فيه ، ويصلحون ما كانوا أفسدوا ، كما تكرر في القرآن ، ومنه في سياق قصة موسى مع بني إسرائيل - خطابا لهم - من سورة طه : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( 20 : 82 ) .
وقد رد الله تعالى عليهم زعمهم بقوله : ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق الاستفهام للتقرير ، أي قد أخذ عهد الله وميثاقه في كتابه بألا يقولوا عليه غير الحق الذي بينه فيه ، فما بالهم يجزمون بأن الله سيغفر لهم مع إصرارهم على ذنوبهم على خلاف ما في الكتاب ودرسوا ما فيه أي : من تحريم أكل أموال الناس بالباطل والكذب على الله كقوله : إنه سيغفر لهم ، وغير ذلك ، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في العمل بكتابه كما في آخر سفر تثنية الاشتراع .
والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون أي : والدار الآخرة ، وما أعده الله فيها للذين يتقون الرذائل والمعاصي خير من الحطام الفاني من عرض الدنيا بالرشوة والسحت وغير ذلك ، أفلا تعقلون ذلك ، وهو ظاهر جلي لا يخفى على عقل لم يطمسه الطمع الباطل ، في الحطام العاجل ، فترجحون الخير على الشر ، والنعيم العظيم الدائم ، على المتاع الحقير الزائل ! وقد علم من الآية أن الطمع في متاع الدنيا هو الذي استحوذ على بني إسرائيل فأفسد عليهم أمرهم ، ولا يزال هذا التفاني فيه أخص صفاتهم .
وقد سرى شيء كثير من هذا الفساد إلى المسلمين ، حتى رجال الدين الذين ورثوا الكتاب الكريم ، والقرآن الحكيم ، ودرسوا ما فيه ، غلب على أكثرهم الطمع في حطام الدنيا القليل ، وعرضها الدنيء ، والغرور بالنسبة إلى الإسلام والتحلي بلقبه ، والتعلل بأماني المغفرة مع الإصرار على الذنب والاتكال على المكفرات والشفاعات ، وهم يقرؤون ما في الكتاب من النهي عن الأماني والأوهام ، ومن نوط الجزاء بالأعمال ، والمغفرة بالتوبة والإصلاح ، وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله لمن رضي عنه كقوله : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ( 21 : 28 ) ولن يرضى الله عن فاسق ولا منافق فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ( 9 : 96 ) ، بل ما قص الله علينا مثل هذه الآيات من أخبار بني إسرائيل إلا لنعتبر بأحوالهم ونتقي الذنوب التي أخذهم بها ، ولكننا مع هذا كله اتبعنا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، إلا أننا نحمد الله أن هذا الاتباع فينا غير عام ، وأنه لا يزال فينا طائفة ظاهرة على الحق يطعن فيها الجماهير الذين صار الإسلام فيهم غريبا ، وقد شرحنا ذلك مرارا بل صرحت الآيات بالتحذير من اتباع أهل الكتاب في أمانيهم وفي فسقهم كقوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ( 4 : 123 ) إلخ . وقوله : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ( 57 : 16 ) [ ص: 324 ] قرأ تعقلون بالتاء نافع وابن عامر وابن ذكوان وأبو جعفر وسهل ويعقوب وحفص ، فقيل : إن الخطاب به لليهود المحكي عنهم بطريق الالتفات ، وقيل : بل هو خطاب لهذه الأمة ; لتعتبر بحالهم ، وتجتنب ما كان سببا لسوء مآلهم ، من الإصرار على سوء أعمالهم ، وقرأ الآخرون ( يعقلون ) على الأصل في الحكاية عن الغائبين ، ولو صح ما قيل من أن هذه الآيات نزلت وحدها في المدينة لصح أن يقال : إن الخطاب موجه إلى اليهود المجاورين لها ; لأنهم آخر ذلك الخلف ، الذي نزل فيه هذا الوصف في ذلك الوقت .
والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين قرأ الجمهور يمسكون بتشديد السين من مسك تمسكا بمعنى تمسك تمسكا ، ومثله قدم بمعنى تقدم ، ومنه : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ( 49 : 1 ) وقرأ أبو بكر وحماد يمسكون بالتخفيف من الإمساك - أي : والذين يستمسكون بعروة الكتاب الوثقى ، ويعتصمون بحبله في جميع أحوالهم وأوقاتهم ، وأقاموا الصلاة التي هي عماد الدين في أوقاتها إنا لا نضيع أجر المصلحين إنا لا نضيع أجرهم ; لأنهم هم المصلحون ، والله لا يضيع أجر المصلحين ، فهو خبر قرن بالدليل ، ومثله قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ( 18 : 30 ) .