[ ص: 82 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174nindex.php?page=treesubj&link=28973_27962_29434_32211_27133_32428إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=175أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=176ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد )
هذه الآيات متصلة بما قبلها على كلا الوجهين السابقين ، فإذا كان الكلام لا يزال في محاجة
اليهود وأمثالهم فالأمر ظاهر ، وإذا قلنا : إن الكلام قد دخل في سرد الأحكام تكون مقررة لحكم منها ، وهو ظاهر أيضا ، فقد تقدم أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=168يا أيها الناس كلوا مما في الأرض ) تقرير لحكم في الأكل على خلاف ما عليه أهل الملل ، وبينا ما كان عليه
أهل الكتاب والمشركون في الأكل ، ونقض القرآن لما وضعوه لأنفسهم من أوهاق الأحكام ، وإباحة الطيبات للناس بشرط أن يشكروه عليها ، وعلى هذا تكون الآيات جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرم الله ، ويشرعون لهم ما لم يشرعه من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك ، فيدخل فيه
اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع ما لم يأذن به الله وإظهار خلافه ، سواء كان ذلك في أمر العقائد ككتمان
اليهود أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ) ( 6 : 91 ) وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم ويكتم بعضه لمنفعته لا لإظهار الحق وتأييده ، وهذا هو ما عبر عنه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا ) أي : الذين يخفون شيئا مما أنزل الله من كتابه فلا يبلغونه للناس مهما يكن موضوعه ، أو يخفون معناه عنهم بتأويله أو تحريفه أو وضع غيره في موضعه برأيهم واجتهادهم ، ويستبدلون بما يكتمونه ثمنا قليلا من متاع الدنيا الفاني كالرشوة ، والجعل على الفتاوى الباطلة ، أو قضاء الحاجات عند الله تعالى وغير ذلك من المنافع الموقتة إذ اتخذوا الدين تجارة . والثمن القليل منه ما قاله المفسر من استفادة الرؤساء من المرءوسين ومنه عكسه كما تقدم غير مرة .
[ ص: 83 ] ( قال شيخنا ) : هذا النوع من البيع والشراء في الدين عام في الرؤساء الضالين من جميع الأمم ، ومنه ما كان رؤساء
اليهود يلاحظونه زمن التنزيل وهو حفظ ما بيدهم الذي يتوهمون أنه يفوتهم بترك ما هم عليه من التقاليد واتباع ما أنزل الله بدلا منها ، وهذا هو شأن الناس في كل دعوة إلى إصلاح جديد غير ما هم فيه ، وإن كان يعدهم بخير منه في الدنيا والآخرة ، وكان ما هم فيه هو الفقر والذل والخذلان حاضره أو منتظره .
ماذا كان
nindex.php?page=treesubj&link=29257شأن اليهود في زمن البعثة ؟ ذل واضطهاد من جميع الأمم ولا سيما
النصارى ، فقد كانوا يسومونهم سوء العذاب ، ومنعوهم من دخول مدينتهم المقدسة ، وأكرهوهم في بعض البلاد على التنصر .
ماذا كان
nindex.php?page=treesubj&link=29257النصارى في زمن البعثة ؟ فقر حاضر وذل غالب ، وحجر على العقول ، ومنع للحرية في الرأي والعلم ، وتحكم في الإرادة ، وسيطرة على خطرات القلوب وأهواء النفوس . كان هذا عاما في كل قطر وكل مملكة ، وكان بين الطوائف بعضها مع بعض حروب تشب ، وغارات تشن ، ودماء تسفك ، وحقوق تنتهك ، وكانوا على هذا كله يتوهمون أن الإسلام سيخرجهم من سعادة إلى شقاء ، ومن نعمة إلى بلاء ، هب أن بعضهم كان له شيء من المال ، وبقية من الجاه ، أليس هو من فخفخة الدنيا الزائلة ، ألم يكن منغصا بالخوف عليه والمنازعة فيه ؟ هب أنه كان لبعض شعوبهم طائفة من القوة ، ألم تكن تشبه الزوبعة تعصف ولا تلبث أن تزول ؟ نعم إن ما كان يغر هؤلاء وهؤلاء لم يكن موضعا للغرور ، لأنه متاع حقير ، وثمن قليل ، وهو غير قائم على أساس ثابت ، ولذلك زال بظهور الإسلام وانتشاره وتقوضت تلك السلطة ، واندكت صروح تلك العظمة ، وأجلي
اليهود من
جزيرة العرب ، وزال ملك غيرهم من كل بلاد رفضوا فيها دعوة الإسلام ، وهذا شأن الباطل لا يثبت أمام الحق ; فإن أحكام الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها ، وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها ، وحكم الحق هو الثابت بذاته ، فلا يغلب أنصاره ما داموا معتصمين به مجتمعين عليه .
وقال المفسرون : إن هذا الحكم يصدق على المسلمين كما يصدق على
أهل الكتاب ; لأن الغرض تقرير الحكم وهو عام كما يدل لفظه ، وكما يليق بعدل الله تعالى رب العالمين ، وكما هو ظاهر معقول من اطراد سنة الله تعالى في تأييد أنصار الحق وخذل أهل الباطل فإنها واضحة جلية للمتأملين .
كل ثمن يؤخذ عوضا عن الحق فهو قليل ، إن لم يكن قليلا في ذاته فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الثابتة بذاتها ، والدائمة بدوام المحافظة على الحق ، ولو دام للمبطل ما يتمتع به من ثمن الباطل إلى نهاية الأجل - وما هو إلا قصير - فماذا يفعل وقد فاتته بذلك سعادة الروح ونعيم الآخرة باختياره الباطل على الحق (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=38فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) ( 9 : 38 )
[ ص: 84 ] قد يعترض الناظر في التاريخ ما قرره الأستاذ الإمام في هذا المقام من ذهاب عز الذين قاوموا دعوة الإسلام ، وكتموا الحق من
اليهود والنصارى بأن عيشة
اليهود كانت بعد الإسلام خيرا منها قبله ; لأنهم كانوا مضطهدين مقهورين بحكم
النصارى الشديد وتعصبهم الفاحش ، فساوى الإسلام بينهم وبين
النصارى والمسلمين ، وأعطاهم كمال الحرية في دينهم ودنياهم فحسنت حالهم في الشرق والغرب وكثر ما بأيديهم ولم يقل . وأن المسلمين لم يقووا على جميع
نصارى أوروبا فبقي لكثير من الممالك سلطانها وما تتمتع به ، وكذلك بعض الممالك الوثنية وهم أعرق في الباطل من
النصارى . والجواب عن ذلك أن
يهود الحجاز هم الذين كانوا يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكتمون ما عرفوا من نعته ويظاهرون المشركين عليه ، فهم الذين قاوموا الحق بالباطل ، فلقوا جزاءهم الذي تم بجلائهم من
جزيرة العرب أو
الحجاز . وأما
يهود سورية وغيرها (
كالأندلس ) فقد كانوا يساعدون الدعوة الإسلامية ودعاتها حتى من لم يؤمن منهم ليخلصوا من ظلم
النصارى واستبدادهم فيهم ، فنالوا من حسن الجزاء بمقدار قربهم من الحق ، ولو آمنوا وقبلوا الحق كله وأيدوه لذاته ظاهرا وباطنا لأوتوا أجرهم مرتين ، وجزاءهم ضعفين ، وكانوا أئمة وارثين وسادة عالين .
وأما الذين لهم ملكهم ومتاعهم فلم يكن لهم ذلك بضعف حق الإسلام عن باطلهم ، فإن الذين حاولوا فتح ما وراء
الأندلس من أوربا لم يكن غرضهم كلهم نشر دعوة الحق ، إنما كان غرضهم عظمة الملك والغنائم ، وليس من الحق أن يعتدي قوم على قوم لأجل سلب ما في أيديهم ; فإن المعتدي مبطل ، والمدافع محق في الدفاع عن نفسه وبلاده ، وإن كان مبطلا في عمله واعتقاده ، فهو جدير بأن يكون له الظفر إذا أخذ له أهبته ، وأعد له عدته ، وقس على هذا سائر الممالك التي لم يقو المسلمون عليها بعد ترك الدعوة لأجل الهداية ، والإسلام لا يبيح الحرب لذاتها - وقد حرم الاعتداء - وإنما يوجب تعميم الدعوة إلى الحق والخير ، فمن عارضها وجب جهاده عند القدرة حتى يقبلها أو يكون لأهلها السلطان الذي يتمكنون به من نشرها بدون معارض ; أي : أنه يوجب الجهاد ما دام الناس يفتنون في الدين - أي لا تكون لهم حرية فيه ولا في الدعوة إليه - أو يعتدى عليهم وعلى بلادهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=190وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين -
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=39وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ( 2 : 190 - 193 ) وسيأتي تفسيرها قريبا .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) أي : أولئك الكاتمون لكتاب الله والمتجرون به ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار وانتهاء مطامعهم بعذابها ، وهذا أظهر من القول بأنهم لا يأكلون في دار الجزاء إلا النار أو طعام النار من الضريع والزقوم ، وعبر عن المنافع بالأكل ; لأنه أعمها ، والمعنى لا تملأ بطونهم إلا النار ، فإن الأكل لما كان لا يكون إلا في البطن كان لا بد من نكتة لذكر البطن إذا قيل أكل في بطنه ، ورأيناهم
[ ص: 85 ] يعبرون بذلك عن الامتلاء ; يقولون أكل في بطنه يريدون ملأ بطنه ، والأصل أن يأكل الإنسان دون امتلاء بطنه ، والمراد أنه لا يشبع جشعهم ، ولا يذهب بطمعهم إلا النار التي يصيرون إليها على حد ما ورد في الحديث ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918655ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) ) واستشهدوا للتعبير بأكل النار عن سبب عذابها بقول القائل في زوجه :
دمشق خذيها لا تفتك فليلة تمر بعودي نعشها ليلة القدر أكلت دما إن لم أرعك بضرة
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
فإنه يريد بالدم الدية التي هو سببها - وأكلها عار عندهم - فهو يدعو على نفسه بأن يبتلى بأكل الدية إن لم يرع زوجه ويزعجها بضرة هي من الجمال بالصفة التي ذكرها ، وأكل الدية يتوقف على أن يقتل بعض أهله الذين له الولاية عليهم ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174ولا يكلمهم الله يوم القيامة ) قالوا : إن الكلام كناية عن الإعراض عنهم والغضب عليهم ، وهي كناية مشهورة شائعة إلى اليوم ، وجمعوا بهذا بين الآية وبين قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=92فوربك لنسألنهم أجمعين ) ( 15 : 92 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=6فلنسألن الذين أرسل إليهم ) ( 7 : 6 ) وقيل لا يكلمهم بما يحبونه (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174ولا يزكيهم ) أي : لا يطهرهم من ذنوبهم بالمغفرة والعفو وقد ماتوا وهم مصرون على كفرهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174ولهم عذاب أليم ) أي : شديد الألم .
[ ص: 82 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174nindex.php?page=treesubj&link=28973_27962_29434_32211_27133_32428إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=175أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=176ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ )
هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ لَا يَزَالُ فِي مَحَاجَّةِ
الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ ، وَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ الْكَلَامَ قَدْ دَخَلَ فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ تَكُونُ مُقَرِّرَةً لِحُكْمٍ مِنْهَا ، وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=168يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ ) تَقْرِيرٌ لِحُكْمٍ فِي الْأَكْلِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمِلَلِ ، وَبَيَّنَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ
أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ فِي الْأَكْلِ ، وَنَقْضَ الْقُرْآنِ لِمَا وَضَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَوْهَاقِ الْأَحْكَامِ ، وَإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ لِلنَّاسِ بِشَرْطِ أَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَيْهَا ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَاتُ جَارِيَةً عَلَى الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللَّهُ ، وَيُشَرِّعُونَ لَهُمْ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ مِنْ حَيْثُ يَكْتُمُونَ مَا شَرَعَهُ بِالتَّأْوِيلِ أَوِ التَّرْكِ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ فِي شَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَإِظْهَارِ خِلَافِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الْعَقَائِدِ كَكِتْمَانِ
الْيَهُودِ أَوْصَافَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الْأَكْلِ وَالتَّقَشُّفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي كَانُوا يَكْتُمُونَهَا إِذَا كَانَ لَهُمْ مَنْفَعَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) ( 6 : 91 ) وَفِي حُكْمِهِمْ كُلُّ مَنْ يُبْدِي بَعْضَ الْعِلْمِ وَيَكْتُمُ بَعْضَهُ لِمَنْفَعَتِهِ لَا لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَتَأْيِيدِهِ ، وَهَذَا هُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ) أَيِ : الَّذِينَ يُخْفُونَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ فَلَا يُبَلِّغُونَهُ لِلنَّاسِ مَهْمَا يَكُنْ مَوْضُوعُهُ ، أَوْ يُخْفُونَ مَعْنَاهُ عَنْهُمْ بِتَأْوِيلِهِ أَوْ تَحْرِيفِهِ أَوْ وَضْعِ غَيْرِهِ فِي مَوْضِعِهِ بِرَأْيِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ ، وَيَسْتَبْدِلُونَ بِمَا يَكْتُمُونَهُ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْفَانِي كَالرِّشْوَةِ ، وَالْجَعْلِ عَلَى الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ ، أَوْ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُوَقَّتَةِ إِذِ اتَّخَذُوا الدِّينَ تِجَارَةً . وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ مِنْهُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُ مِنِ اسْتِفَادَةِ الرُّؤَسَاءِ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ وَمِنْهُ عَكْسُهُ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ .
[ ص: 83 ] ( قَالَ شَيْخُنَا ) : هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الدِّينِ عَامٌّ فِي الرُّؤَسَاءِ الضَّالِّينَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ ، وَمِنْهُ مَا كَانَ رُؤَسَاءُ
الْيَهُودِ يُلَاحِظُونَهُ زَمَنَ التَّنْزِيلِ وَهُوَ حِفْظُ مَا بِيَدِهِمُ الَّذِي يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يَفُوتُهُمْ بِتَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَدَلًا مِنْهَا ، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ النَّاسِ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ إِلَى إِصْلَاحٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مَا هُمْ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ يَعِدُهُمْ بِخَيْرٍ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ هُوَ الْفَقْرُ وَالذُّلُّ وَالْخِذْلَانُ حَاضِرُهُ أَوْ مُنْتَظِرُهُ .
مَاذَا كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=29257شَأْنُ الْيَهُودِ فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ ؟ ذُلٌّ وَاضْطِهَادٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَلَا سِيَّمَا
النَّصَارَى ، فَقَدْ كَانُوا يَسُومُونَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، وَمَنَعُوهُمْ مِنْ دُخُولِ مَدِينَتِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ ، وَأَكْرَهُوهُمْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ عَلَى التَّنَصُّرِ .
مَاذَا كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=29257النَّصَارَى فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ ؟ فَقْرٌ حَاضِرٌ وَذُلٌّ غَالِبٌ ، وَحَجْرٌ عَلَى الْعُقُولِ ، وَمَنْعٌ لِلْحُرِّيَّةِ فِي الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ ، وَتَحَكُّمٌ فِي الْإِرَادَةِ ، وَسَيْطَرَةٌ عَلَى خَطِرَاتِ الْقُلُوبِ وَأَهْوَاءِ النُّفُوسِ . كَانَ هَذَا عَامًّا فِي كُلِّ قُطْرٍ وَكُلِّ مَمْلَكَةٍ ، وَكَانَ بَيْنَ الطَّوَائِفِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ حُرُوبٌ تَشِبُّ ، وَغَارَاتٌ تُشَنُّ ، وَدِمَاءٌ تُسْفَكُ ، وَحُقُوقٌ تُنْتَهَكُ ، وَكَانُوا عَلَى هَذَا كُلِّهِ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ سَيُخْرِجُهُمْ مِنْ سَعَادَةٍ إِلَى شَقَاءٍ ، وَمِنْ نِعْمَةٍ إِلَى بَلَاءٍ ، هَبْ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ ، وَبَقِيَّةٌ مِنَ الْجَاهِ ، أَلَيْسَ هُوَ مِنْ فَخْفَخَةِ الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ ، أَلَمْ يَكُنْ مُنَغَّصًا بِالْخَوْفِ عَلَيْهِ وَالْمُنَازَعَةِ فِيهِ ؟ هَبْ أَنَّهُ كَانَ لِبَعْضِ شُعُوبِهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْقُوَّةِ ، أَلَمْ تَكُنْ تُشْبِهُ الزَّوْبَعَةَ تَعْصِفُ وَلَا تَلْبَثُ أَنْ تَزُولَ ؟ نَعَمْ إِنَّ مَا كَانَ يَغُرُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِلْغُرُورِ ، لِأَنَّهُ مَتَاعٌ حَقِيرٌ ، وَثَمَنٌ قَلِيلٌ ، وَهُوَ غَيْرُ قَائِمٍ عَلَى أَسَاسٍ ثَابِتٍ ، وَلِذَلِكَ زَالَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَانْتِشَارِهِ وَتَقَوَّضَتْ تِلْكَ السُّلْطَةُ ، وَانْدَكَّتْ صُرُوحُ تِلْكَ الْعَظَمَةِ ، وَأُجْلِيَ
الْيَهُودُ مِنْ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَزَالَ مُلْكُ غَيْرِهِمْ مِنْ كُلِّ بِلَادٍ رَفَضُوا فِيهَا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا شَأْنُ الْبَاطِلِ لَا يَثْبُتُ أَمَامَ الْحَقِّ ; فَإِنَّ أَحْكَامَ الْبَاطِلِ مُؤَقَّتَةٌ لَا ثَبَاتَ لَهَا فِي ذَاتِهَا ، وَإِنَّمَا بَقَاؤُهَا فِي نَوْمِ الْحَقِّ عَنْهَا ، وَحُكْمُ الْحَقِّ هُوَ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ ، فَلَا يُغْلَبُ أَنْصَارُهُ مَا دَامُوا مُعْتَصِمِينَ بِهِ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَصْدُقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَصْدُقُ عَلَى
أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ وَهُوَ عَامٌّ كَمَا يَدُلُّ لَفْظُهُ ، وَكَمَا يَلِيقُ بِعَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَكَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ مِنَ اطِّرَادِ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَأْيِيدِ أَنْصَارِ الْحَقِّ وَخَذْلِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَإِنَّهَا وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ .
كُلُّ ثَمَنٍ يُؤْخَذُ عِوَضًا عَنِ الْحَقِّ فَهُوَ قَلِيلٌ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ قَلِيلًا فِي ذَاتِهِ فَهُوَ قَلِيلٌ فِي جَنْبِ مَا يَفُوتُ آخَذَهُ مِنْ سَعَادَةِ الْحَقِّ الثَّابِتَةِ بِذَاتِهَا ، وَالدَّائِمَةِ بِدَوَامِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحَقِّ ، وَلَوْ دَامَ لِلْمُبْطِلِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ ثَمَنِ الْبَاطِلِ إِلَى نِهَايَةِ الْأَجَلِ - وَمَا هُوَ إِلَّا قَصِيرٌ - فَمَاذَا يَفْعَلُ وَقَدْ فَاتَتْهُ بِذَلِكَ سَعَادَةُ الرُّوحِ وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ بِاخْتِيَارِهِ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=38فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ) ( 9 : 38 )
[ ص: 84 ] قَدْ يَعْتَرِضُ النَّاظِرُ فِي التَّارِيخِ مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ ذَهَابِ عِزِّ الَّذِينَ قَاوَمُوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ ، وَكَتَمُوا الْحَقَّ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَنَّ عِيشَةَ
الْيَهُودِ كَانَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ خَيْرًا مِنْهَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُضْطَهَدِينَ مَقْهُورِينَ بِحُكْمِ
النَّصَارَى الشَّدِيدِ وَتَعَصُّبِهِمُ الْفَاحِشِ ، فَسَاوَى الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ ، وَأَعْطَاهُمْ كَمَالَ الْحُرِّيَّةِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَحَسُنَتْ حَالُهُمْ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ وَكَثُرَ مَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَمْ يَقِلَّ . وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقْوَوْا عَلَى جَمِيعِ
نَصَارَى أُورُوبَّا فَبَقِيَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمَمَالِكِ سُلْطَانُهَا وَمَا تَتَمَتَّعُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمَمَالِكِ الْوَثَنِيَّةِ وَهُمْ أَعْرَقُ فِي الْبَاطِلِ مِنَ
النَّصَارَى . وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ
يَهُودَ الْحِجَازِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكْتُمُونَ مَا عَرَفُوا مِنْ نَعْتِهِ وَيُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ ، فَهُمُ الَّذِينَ قَاوَمُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، فَلَقُوا جَزَاءَهُمُ الَّذِي تَمَّ بِجَلَّائِهِمْ مِنْ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَوِ
الْحِجَازِ . وَأَمَّا
يَهُودُ سُورِيَةَ وَغَيْرِهَا (
كَالْأَنْدَلُسِ ) فَقَدْ كَانُوا يُسَاعِدُونَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ وَدُعَاتِهَا حَتَّى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ لِيَخْلُصُوا مِنْ ظُلْمِ
النَّصَارَى وَاسْتِبْدَادِهِمْ فِيهِمْ ، فَنَالُوا مَنْ حَسْنِ الْجَزَاءِ بِمِقْدَارِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْحَقِّ ، وَلَوْ آمَنُوا وَقَبِلُوا الْحَقَّ كُلَّهُ وَأَيَّدُوهُ لِذَاتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَأُوتُوا أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ، وَجَزَاءَهُمْ ضِعْفَيْنِ ، وَكَانُوا أَئِمَّةً وَارِثِينَ وَسَادَةً عَالِينَ .
وَأَمَّا الَّذِينَ لَهُمْ مُلْكُهُمْ وَمَتَاعُهُمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ بِضَعْفِ حُقِّ الْإِسْلَامِ عَنْ بَاطِلِهِمْ ، فَإِنَّ الَّذِينَ حَاوَلُوا فَتْحَ مَا وَرَاءَ
الْأَنْدَلُسِ مِنْ أُورُبَّا لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ كُلِّهِمْ نَشْرَ دَعْوَةِ الْحَقِّ ، إِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُمْ عَظَمَةَ الْمُلْكِ وَالْغَنَائِمِ ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَعْتَدِيَ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ لِأَجْلِ سَلْبِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ; فَإِنَّ الْمُعْتَدِيَ مُبْطِلٌ ، وَالْمُدَافِعَ مُحِقٌّ فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِلَادِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فِي عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ الظَّفَرُ إِذَا أَخَذَ لَهُ أُهْبَتَهُ ، وَأَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ ، وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ الْمَمَالِكِ الَّتِي لَمْ يَقْوَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بَعْدَ تَرْكِ الدَّعْوَةِ لِأَجْلِ الْهِدَايَةِ ، وَالْإِسْلَامُ لَا يُبِيحُ الْحَرْبَ لِذَاتِهَا - وَقَدْ حَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ - وَإِنَّمَا يُوجِبُ تَعْمِيمَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ ، فَمَنْ عَارَضَهَا وَجَبَ جِهَادُهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ حَتَّى يَقْبَلَهَا أَوْ يَكُونَ لِأَهْلِهَا السُّلْطَانُ الَّذِي يَتَمَكَّنُونَ بِهِ مِنْ نَشْرِهَا بِدُونِ مُعَارِضٍ ; أَيْ : أَنَّهُ يُوجِبُ الْجِهَادَ مَا دَامَ النَّاسُ يُفْتَنُونَ فِي الدِّينِ - أَيْ لَا تَكُونُ لَهُمْ حُرِّيَّةٌ فِيهِ وَلَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ - أَوْ يُعْتَدَى عَلَيْهِمْ وَعَلَى بِلَادِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=190وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ -
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=39وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) ( 2 : 190 - 193 ) وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا قَرِيبًا .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) أَيْ : أُولَئِكَ الْكَاتِمُونَ لِكِتَابِ اللَّهِ وَالْمُتَّجِرُونَ بِهِ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ مِنْ ثَمَنِهِ إِلَّا مَا يَكُونُ سَبَبًا لِدُخُولِ النَّارِ وَانْتِهَاءِ مَطَامِعِهِمْ بِعَذَابِهَا ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ إِلَّا النَّارَ أَوْ طَعَامَ النَّارِ مِنَ الضَّرِيعِ وَالزَّقُّومِ ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمَنَافِعِ بِالْأَكْلِ ; لِأَنَّهُ أَعَمُّهَا ، وَالْمَعْنَى لَا تَمْلَأُ بُطُونَهُمْ إِلَّا النَّارُ ، فَإِنَّ الْأَكْلَ لَمَّا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْبَطْنِ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ لِذِكْرِ الْبَطْنِ إِذَا قِيلَ أَكَلَ فِي بَطْنِهِ ، وَرَأَيْنَاهُمْ
[ ص: 85 ] يُعَبِّرُونَ بِذَلِكَ عَنِ الِامْتِلَاءِ ; يَقُولُونَ أَكَلَ فِي بَطْنِهِ يُرِيدُونَ مَلَأَ بَطْنَهُ ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ دُونَ امْتِلَاءِ بَطْنِهِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُشْبِعُ جَشَعَهُمْ ، وَلَا يَذْهَبُ بِطَمَعِهِمْ إِلَّا النَّارُ الَّتِي يَصِيرُونَ إِلَيْهَا عَلَى حَدِّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918655وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ ) ) وَاسْتَشْهَدُوا لِلتَّعْبِيرِ بِأَكْلِ النَّارِ عَنْ سَبَبِ عَذَابِهَا بِقَوْلِ الْقَائِلِ فِي زَوْجِهِ :
دِمَشْقُ خُذِيهَا لَا تَفُتْكِ فَلَيْلَةٌ تَمُرُّ بِعُودِي نَعْشُهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ
بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقِرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِالدَّمِ الدِّيَةَ الَّتِي هُوَ سَبَبُهَا - وَأَكْلُهَا عَارٌ عِنْدَهُمْ - فَهُوَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يُبْتَلَى بِأَكْلِ الدِّيَةِ إِنْ لَمْ يَرُعْ زَوْجَهُ وَيُزْعِجْهَا بِضَرَّةٍ هِيَ مِنَ الْجَمَالِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ، وَأَكْلُ الدِّيَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ بَعْضُ أَهْلِهِ الَّذِينَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِمْ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) قَالُوا : إِنَّ الْكَلَامَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَالْغَضَبِ عَلَيْهِمْ ، وَهِيَ كِنَايَةٌ مَشْهُورَةٌ شَائِعَةٌ إِلَى الْيَوْمِ ، وَجَمَعُوا بِهَذَا بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=92فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) ( 15 : 92 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=6فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ) ( 7 : 6 ) وَقِيلَ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174وَلَا يُزَكِّيهِمْ ) أَيْ : لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ وَقَدْ مَاتُوا وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=174وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أَيْ : شَدِيدُ الْأَلَمِ .