[ ص: 29 ]
وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي
وقد اشتهر في عباد الملة أفراد في ترك الأسباب كلها توكلا على الله ، وثقة به ، واشتهر من تسخيره تعالى الأسباب لهم ، والعناية بهم ، ما يعسر على الذكي تأويله كله بالتخريج على المصادفات المعتادة : الذي كان ملكا فخرج من ملكه ، وانقطع لعبادة ربه متوكلا عليه في رزقه ، وفي كل أموره . كإبراهيم بن أدهم وإبراهيم الخواص من المتقدمين ، وقد أدركنا في عصرنا عالما أفغانيا منهم اسمه وشقيق البلخي عبد الباقي خرج من بلاده بعد تحصيل العلوم العربية والشرعية إلى الهند للتوسع في الفلسفة وسائر المعقولات ، وجد واجتهد فيها حتى رأى في منامه مرة رجلا ذا هيئة حسنة مؤثرة سأله : أتدري ماذا تعمل يا عبد الباقي ؟ إنك كمن يأخذ خشبة يحرك بها الكنيف عامة نهاره ، فلما استيقظ حملته هذه الرؤيا على التفكر في هذه الفلسفة اليونانية والفائدة منها . وما لبث أن تركها ، وعزم على الانقطاع لعبادة الله ، وترك العالم كله لذلك ، فخرج من الهند إلى بلاد العرب فكان يحج في كل سنة ماشيا ، ويعود إلى بلاد الشام في الغالب فيقيم عندنا في القلمون أياما ، وفي طرابلس وحمص كذلك ، ثم يعود إلى الحجاز ، وهكذا دواليك ، ولم يكن يحمل دراهم ، ولا زادا ، وقد يحمل كتابا بيده يقرأه ، فإذا فرغ منه وهبه ، وتلقى عنه بعض الأذكياء دروسا في التوحيد والأصول ، ومنه يعلم الفرق بينه وبين أولئك الدراويش الكسالى والسياحين الدجالين .قال صديقنا العالم الذكي النقادة السيد عبد الحميد الزهراوي : لولا أننا رأينا هذا الرجل بأعيننا واختبرناه في هذه السنين الطوال بأنفسنا ، لكنا نظن أن ما يروى من أخبار كبار الصالحين المتوكلين من المتقدمين ، كإبراهيم بن أدهم والخواص والبلخي مبالغات وإغراقات من مترجميهم .
وقد حدثنا العلامة الفقيه الصوفي الأديب الشيخ عبد الغني الرافعي أنه كان غلب عليه حال التوكل ، وحدثته نفسه بأنه صار مقدما له ، فامتحناه بسفر خرج فيه من بلده ، وليس في يده مال ، فسخر الله له من الأسباب الشريفة ما كان به سفره لائقا بكرامته ، وحسن مظهره ، وأول ذلك أنه سخر له من لم يكن يعرف من أغنياء المسافرين بالباخرة فتبرع له بأجرة السفر فيها إلى حيث أراد . ومثل هذا التسخير يقع كثيرا لرجال العلم والأدب في أقوامهم وأقطارهم ، وناهيك ما كان يمتاز به الشيخ رحمه الله من جمال الصورة ، ومهابة الطلعة ، وحسن الزي والوقار يزينه اللطف والتواضع ، ولكن هل يقدم من كان مثله في كرامته وإبائه على الخروج من بلده ، وركوب البحر وهو لا يحمل درهما ولا دينارا لولا شدة الثقة بالله ، واطمئنان القلب بالتوكل عليه ؟ كلا إنما يقدم على مثل هذا ممن لا يعقل معنى التوكل أناس [ ص: 30 ] من الشطار اتخذوا الاحتيال على استجداء الأغنياء والأمراء بمظاهرهم الخادعة وتلبيساتهم الباطلة ، صناعة يروجونها بالغلو في إطرائهم .
ومثل عليه في تسخير الأسباب الشريفة لهم ما وقع لشيخنا الأستاذ الإمام أيام كان منفيا في عناية الله تعالى بالمتوكلين بيروت : قال لي : جاءني فلان من أصدقائي المصريين المنفيين يوما وقال : إنه توفي والده ، وأنه لا بد له من العناية اللائقة به في تجهيزه ، وليس في يده ما يكفي لذلك : قال الشيخ : وكنت قبضت راتبي الشهري من المدرسة السلطانية لم أعط منه شيئا للتجار الذين نأخذ منهم مؤنة الدار فنقدته إياه كله لعلمي بحاجته إليه كله ، ووكلت أمري وأمر أسرتي إلى الله تعالى ، فلم يمر ذلك النهار إلا وقد جاءني حوالة برقية بمبلغ أكبر من راتب المدرسة كان دينا لي قديما على رجل أعياني أمر تقاضيه منه ، وأنا فيها ممتع بما تعلم من النفوذ ، وكتبت إليه بعد سفري مرارا أتقاضاه منه مستشفعا بعذر الحاجة حتى يئست منه ، فهل كان إرساله إياه في ذلك اليوم بتحويل برقي إلا تسخيرا منه تعالى بعنايته الخاصة ؟
( أقول ) : إنني أراني غير خارج بهذه الأمثال عن منهج هذا التفسير المراد به التفقه والاعتبار ، وأنا أرى الناس يزداد إعراضهم عن الدين والاهتداء بالقرآن ، وتقل فيهم القدوة الصالحة .