هذا بيان لسنة عظيمة من أعظم سنن الله تعالى في نظام الاجتماع البشري ، يعلم منها بطلان تلك الشبهات التي كانت غالبة على عقول الناس من جميع الأمم ، ولا يزال جماهير الناس يخدعون بها ، وهي ما يتعلق بنوط سعادة الأمم وقوتها وغلبها وسلطانها بسعة الثروة ، وكثرة حصى الأمة ، كما قال الشاعر العربي :
ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر
وكان من غرورهم بها أن كانوا يظنون أن من أوتيها لا تسلب منه ، وأنه كما فضله الله على غيره بابتدائها ، كذلك يفضله بدوامها وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ( 34 : 35 ) وقد بينا غرور البشر بهذه الظواهر في مواضع من هذا التفسير . ثم ظهر أقوام آخرون يرون أن الله تعالى يحابي بعض الأمم والشعوب على بعض بنسبها ، وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوة أو ما دونها ، فيؤتيهم الملك والسيادة والسعادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إلى مللهم ولا سيما إذا كانوا من آبائهم ، كما كان شأن بني إسرائيل في غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم ، وكما فعل الذين اتبعوا سننهم من النصارى ثم المسلمين ، بالغرور في الدين ، ودعوة اتباع النبيين ، وبكرامات الأولياء والصالحين ، وإن كانوا لهم من أشد المخالفين . فبين الله تعالى لكل قوم خطأهم بهذه الآية ، وبما سبق في معناها ، وهو أعم منها في سورة الرعد من قوله : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( 13 : 11 ) وأثبت لهم أن نعم الله تعالى على الأقوام والأمم منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال تقتضيها ، فما دامت هذه الشئون لاصقة بأنفسهم متمكنة منها كانت تلك النعم ثابتة بثباتها ، ولم يكن الرب الكريم لينتزعها منهم انتزاعا بغير ظلم منهم ولا ذنب ، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق ، وما يترتب عليها من محاسن الأعمال ، غير الله عندئذ ما بأنفسهم ، وسلب نعمته منهم ، فصار الغني فقيرا ، والعزيز ذليلا ، والقوي ضعيفا . هذا هو الأصل المطرد في الأقوام والأمم ، وهو كذلك في الأفراد إلا أنه غير مطرد فيهم ، لقصر أعمار كثير منهم دون تأثير التغيير حتى يصل إلى غايته .إن للعقائد الدينية الصحيحة والخرافية آثارا في وحدة الأمة وتكافلها وقوة سلطانها أو ضعفه ، ولا يظهر الفرق بينهما في الوجود إلا بوقوع التنازع بين أمتين مختلفتين فيها . وإن للأخلاق الشخصية التي يتحقق بكثرة بعضها ما يسمى خلقا للأمة أو الشعب مثل ذلك في حكمها وسلطانها وفي ثروتها وعزتها أيضا ، ويظهر ذلك في سيرة كل أمة ودولة ذات تاريخ معروف ، ومن اطلع على كتب ( الدكتور غوستاف لوبون ) الاجتماعي الكبير في علم الاجتماع يجد فيها شواهد كثيرة على هذه القواعد أظهرها ما يبينه من الفروق بين فرنسة .
[ ص: 34 ] وإنكلترة - وبين الشعوب اللاتينية والشعوب " الأنجلوسكسونية " عامة - في الأخلاق ، وما لذلك من الآثار في حياة الفريقين الاجتماعية والسياسة والاستعمارية والتجارية .
ومن كلامه في على الإطلاق ، قوله في الفصل الثالث من كتابه ( روح الاشتراكية ) وموضوعه ( نفسية الشعوب ) : وأذكر هنا ما أشرت إليه كثيرا في كتبي الأخيرة ، وهو أن الأمم لا تنحط وتزول إذا تناقص ذكاء أبنائها ، بل إذا سقطت أخلاقها . هذه سنة طبيعية جرت أحكامها على تأثير الأخلاق في ترقي الأمم وتدليها وقوتها وضعفها اليونان والرومان ، وأخذت تجري في هذه الأيام أيضا ، لا يزال أكثر الناس لا يفقهون هذا القول ، ويجادلون في صحته ، غير أنه أخذ ينتشر ، وقد رأيته مفصلا في كتاب وضعه حديثا الكاتب الإنكليزي ( المستر بنيامين كيد ) ولا أرى لتأييد قضيتي أفضل من اقتباس بعض عبارات عنه بين فيها - منصفا غير محاب - الفرق بين الخلق ( الأنجلوسكسوني ) والخلق الفرنسوي ونتائج هذا الفرق اهـ . ( ص104 و105 ) من الترجمة العربية .
ثم أورد شواهد منه على ما أشار إليه من مراده ، وبيان تفوق الإنكليز على الفرنسيس بأخلاقهم ، فإن فساد الأخلاق الذي أهلك الأمم التاريخية الشهيرة كالفرس واليونان والرومان والعرب قد دب إلى الإفرنج ، وكان بدء فتكه باللاتين ولا سيما الفرنسيس منهم ، فقل نسلهم ، وصاروا يرجعون القهقري أمام الإنكليز وإخوانهم الأميركانيين في كل شيء ، دع الألمان الذين فاقوا الفريقين .
وقد دب هذا الفساد الأخلاقي إلى الإنكليز أيضا كما صرح بذلك أعظم فلاسفتهم ( هربرت سبنسر ) الشهير لأستاذنا الشيخ ( محمد عبده ) وسبق نقله في هذا التفسير من أن الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين في أوربة قد دبت إلى الإنكليز ، وأخذت تفتك بأخلاقهم ، وأنها ستفسد أوربة كلها .
ومن الغريب أن تكون هذه المسألة مما يغفل عنه أكثر المتعلمين في هذا العصر بعد اتساع نطاق علم الاجتماع ، وكثرة المصنفات فيه ، وكثرة ما يكتب في الصحف العامة في موضوع الأخلاق ، وتأثيرها في أحوال الأفراد والأمم ، حتى قال غوستاف لوبون : أكثر الناس لا يفقهون هذا القول بل يجادلون في صحته ، فالمسألة على كونها صارت معروفة للجماهير لا تزال موضع مراء وجدال عند الأكثرين ؛ لأنها من مسائل العلم الصحيح العالي التي لا يفقهها إلا أصحاب البصيرة النافذة ، والمعرفة الممحصة . ولو فقهها الجمهور لكان لها الأثر الصالح في أعماله . وإننا لنرى الألوف في بلادنا يتمثلون بقول أحمد شوقي بك أشهر شعراء العصر :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن من الأخلاق ما لا يجادل أحد في حسنه في نفسه ، وفي استقامة المعاملات العامة في الأمة به كالصدق والأمانة والعدل ، وإن امترى كثيرون أو ماروا في كونها دعائم أسباب النجاح والفلاح في المعيشة أو الترقي في مناصب الحكومة ، ولكن قلما يجهل أحد من أذكياء هؤلاء الممترين في فساد الجماعة أو الشركة أو الحكومة التي يرتقي العامل فيها بالكذب ، والخيانة والظلم ، وإذا بلغ قوم هذه الغاية من الفساد ألفوه وعدوه من ضروريات الحياة ، ولم تعد قلوبهم تتوجه إلى الخروج منه بإصلاح ما بأنفسهم ، وإنما يتلافون من شره ما استطاعوا ببعض النظم والقوانين الصورية .
وإن من الأخلاق الكريمة ما صار الفاسدون المفسدون يجادلون في حسنه ، وكونه من الفضائل التي يصلح بها حال الأفراد ، ويرتقي به مجموع الأمة كالحياء والرحمة والعفة . يقولون : إن الحياء ضعف في النفس ، وكذلك الرحمة . وهذا خطأ لا محل هنا لبيانه ، وهو قديم ، وإنما الجديد الذي لم يطرق مسامعنا قبل هذه الأيام هو المراء في فضيلة العفة ، فإن دعاة الفساد الذي يسمونه تجديد الأمة قد اقترفوا هذه الجريمة ، ولا غرو فإن من أركانه عندهم تهتك النساء ، وامتزاجهن بالرجال في الملاعب والمراقص والمسارح والمسابح مواضع السباحة في البحر ( فقد كتب أحدهم في بعض الصحف الناشرة لدعايتهم أن العفة يختلف معناها باختلاف معارف الناس وعرفهم وأذواقهم وتقدمهم في الحضارة ، ومن ذلك أن المرتقين الآن لا يعدون رقص النساء مع الرجال منافيا للعفة ، ولا مخلا بها . ووثب كاتب آخر منهم وثبة أخرى فقال : إنه قد ظهر في هذا الزمان أن إرخاء العنان للشهوات البدنية لا يضر في الجسد ، ولا في النفس ، ولا يخل بالآداب ، ولا يضعف الأمة عدم التزام الأديان والشرائع فيه - قال المفسد قاتله الله : وقد ثبت هذا بالتجربة في الأمة الأميركانية فظهر به خطأ المتقدمين فيه ، وهذا زعم باطل يتقرب به قائله إلى المسرفين من الفساق ، ولا يزال الأطباء والحكماء مجمعين على هدم الإسراف في الشهوات لبناء البنية بما يولده من الضعف والأمراض ، كما أنه مفسد للآداب والأخلاق .
[ ص: 36 ] مازال البشر يمارون في كل شيء حتى الحسيات والضروريات ، وإنما الكلام المقبول في كل موضوع لعلماء أهله ، ألم تر أنهم يمارون في مضار شرب الخمر ، ويدعون نفعها ، والأطباء المحققون يثبتون خلاف ذلك ، يثبتون أن إثمها أكبر من نفعها ، وأن النفع القليل الخاص ببعض الأحوال المرضية قد يعارضها فيها نفسها من الضرر ما هو أقوى منه ، فيجعل ترك التداوي بها أولى إذا وجد أي شيء آخر يقوم مقامها .
إنني ذكرت في فاتحة هذا التفسير من الجزء الأول أن مسلك جريدة العروة الوثقى في الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي من طريق إرشاد القرآن ، وبيانه لسنن الله تعالى في الإنسان والأكوان قد فتح لي في فهم القرآن بابا لم يأخذ بحلقته أحد من المفسرين المتقدمين ، وإنني أختم هذا الفصل الاستطرادي بمقالة من مقالات تلك الجريدة افتتحه أستاذنا محررها رحمه الله بهذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، ليكون مصباحا للمفسرين والمرشدين والوعاظ يهتدون بضوئه - وليعلم الفرق بين فهم هذا الإمام وأستاذه الحكيم للقرآن ، وبين أفهام المتقدمين الذين كانت حظوظهم من تفسير هذه الآية كتابة سطرين أو بضعة أسطر أكثرها في غير سبيل هدايتها . وهذا نص المقالة :