وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم علم من الآيات التي قبل هذه أن أهل الكتاب من اليهود الذين عقد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم العهود التي أمنهم بها على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم ، فقد خانوه ونقضوا عهده وساعدوا عليه أعداءه من المشركين الذين أخرجوه هو ومن آمن به من ديارهم ووطنهم ، ثم تبعوهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه لأجل دينهم ، وأنه بذلك صار جميع أهل الحجاز الذين كفروا بما جاء به من الحق حربا له ، المشركون وأهل الكتاب سواء ، فناسب بعد ذلك أن يبين تعالى للمؤمنين ما يجب عليهم في حال الحرب التي كانت أمرا واقعا لم يكونوا هم المحدثين له ولا البادئين بالعدوان فيه ، كما أنه سنة من سنن الاجتماع البشري في المصارعة بين الحق والباطل ، والقوة والضعف ، وذلك قوله عز وجل : [ ص: 53 ] وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل الإعداد تهيئة الشيء للمستقبل ، والرباط في أصل اللغة الحبل الذي تربط به الدابة كالمربط ( بالكسر ) ورباط الخيل حبسها واقتناؤها - ورابط الجيش : أقام في الثغر ، والأصل أن يربط هؤلاء وهؤلاء خيولهم ، ثم سمى الإقامة في الثغر مرابطة ورباطا اهـ . من الأساس .
أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يجعلوا ( التي علموا أن لا مندوحة عنها لدفع العدوان والشر ، ولحفظ الأنفس ورعايته الحق والعدل والفضيلة ) بأمرين : ( أحدهما ) إعداد جميع أسباب القوة لها بقدر الاستطاعة . ( وثانيهما ) مرابطة فرسانهم في ثغور بلادهم وحدودها ، وهي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد ، والمراد أن الاستعداد للحرب ، قاومه الفرسان ، لسرعة حركتهم ، وقدرتهم على الجمع بين القتال ، وإيصال أخباره من ثغور البلاد إلى عاصمتها وسائر أرجائها ، ولذلك يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فاجأها العدو على غرة . وهذان الأمران هما اللذان تعول عليهما جميع الدول الحربية إلى هذا العهد التي ارتقت فيه الفنون العسكرية وعتاد الحرب إلى درجة لم يسبق لها نظير ، بل لم تكن تدركها العقول ولا تتخيلها الأفكار . عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها
ومن المعلوم بالبداهة أن إعداد المستطاع من القوة يختلف امتثال الأمر الرباني به باختلاف درجات الاستطاعة في كل زمان ومكان بحسبه ، وقد روى مسلم في صحيحه عن أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول : " عقبة بن عامر " قالها ثلاثا ألا إن القوة الرمي ، وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث بمعنى أن كلا منهما أعظم الأركان في بابه ، وذلك أن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة ، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يرمى به العدو من سهم أو قذيفة منجنيق أو طيارة أو بندقية أو مدفع وغير ذلك ، وإن لم يكن كل هذا معروفا في عصره ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن اللفظ يشمله والمراد منه يقتضيه ، ولو كان قيده بالسهام المعروفة في ذلك العصر فكيف وهو لم يقيده ، وما يدرينا لعل الله تعالى أجراه على لسان رسوله مطلقا ، ليدل على العموم لأمته في كل عصر بحسب ما يرمى به فيه - وهناك أحاديث أخرى في الحث على الرمي بالسهام ؛ لأنه كرمي الرصاص في هذه الأيام ، على أن لفظ الآية أدل على العموم ؛ لأنه أمر بالمستطاع موجه إلى الأمة في كل زمان ومكان كسائر خطابات التشريع حتى ما كان منها واردا في سبب معين . ومن قواعد الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنص القرآن صنع المدافع بأنواعها والبنادق والدبابات والطيارات والمناطيد وإنشاء السفن الحربية بأنواعها ، ومنها الغواصات التي تغوص في البحر ، ويجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها [ ص: 54 ] صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب بدليل : ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب " وقد ورد أن الصحابة استعملوا المنجنيق مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة الحج عرفة خيبر وغيرها . وكل الصناعات التي عليها مدار المعيشة من فروض الكفاية كصناعات آلات القتال .
وقد أدرك بعض هذه الآلات الحربية السيد الآلوسي من المفسرين المتأخرين ، فقال بعد إيراد بعض الأحاديث الواردة في الرمي ما نصه : وأنت تعلم أن الرمي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو ، ولأنهم استعملوا الرمي بالبندق والمدافع ولا يكاد ينفع معهما نبل ، وإذا لم يقابلوا بالمثل عم الداء العضال ، واشتد الوبال والنكال ، وملك البسيطة أهل الكفر والضلال ، فالذي أراه والعلم عند الله تعالى تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين ، وحماة الدين ، ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه مقامه في الذب عن بيضة الإسلام ، ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه إلا سببا للفوز بالجنة إن شاء الله تعالى ، ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .
وأقول : قد جزم العلماء قبله بعموم نص الآية ، قال الرازي بعد أن أورد ثلاثة أقوال في تفسيرها منها الرمي الوارد في الحديث : قال أصحاب المعاني : الأولى أن يقال : إن هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو ، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة ، ثم ذكر حديث الرمي وأنه كحديث وأنا لا أدري سببا لالتجاء الحج عرفة الآلوسي في المسألة إلى الرأي والاجتهاد ، واكتفائه بدخول هذه الآلات في عموم نص الآية بعدم الاستبعاد ، إلا أن يكون بعض المعممين في عصره حرموا استعمال هذه الآلات النارية بشبهة أنها من قبيل التعذيب بالنار الذي منعه الإسلام كما يشير إليه قوله : ولا أرى ما فيه من النار إلخ .
نعم : إن الإسلام دين الرحمة قد منع من كما كان يفعل الظالمون والجبارون من الملوك بأعدائهم ، كأصحاب الأخدود الملعونين في سورة البروج ، ولكن من الجهل والغباوة أن يعد حرب الأسلحة النارية للأعداء الذين يحاربوننا بها من هذا القبيل بأن يقال : إن ديننا دين الرحمة يأمرنا أن نحتمل قتلهم إيانا بهذه المدافع ، وألا نقاتلهم بها رحمة بهم ، مع العلم بأن الله تعالى أباح لنا في التعامل فيما بيننا أن نجزي على السيئة بمثلها عملا بالعدل ، وجعل العفو فضيلة لا فريضة فقال : التعذيب بالنار وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ( 42 : 40 و14 ) إلى أخر الآيات . وقال : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( 16 : 126 ) أفلا يكون من العدل بل فوق العدل في الأعداء أن نعاملهم بمثل العدل الذي نعامل به إخواننا أو بما ورد بمعنى الآية في بعض الآثار ، قاتلوهم بمثل ما يقاتلونكم [ ص: 55 ] به ؟ وهم ليسوا أهلا للعدل في حال الحرب ، نعم ورد في الحديث الصحيح النهي عن تحريق الكفار الحربيين بالنار ، ولكن هذا ليس منه ، على أن علماء السلف وفقهاء الأمصار اختلفوا في حكمه ، فأباحه بعضهم مطلقا ، وبعضهم عند الحاجة الحربية كإحراق سفن الحرب ولو لم يكن جزاء بالمثل ، والجزاء أولى .