ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سنته في الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المن والفداء إلا بعد أن يثخن في الأرض ، أي حتى يعظم شأنه فيها ويغلظ ويكثف بأن تتم له القوة والغلب ، فلا يكون اتخاذه الأسرى سببا لضعفه أو قوة أعدائه ، وهو في معنى قول ومعنى ـ رضي الله عنه ـ : حتى يظهر على الأرض . وقول ابن عباس : حتى يغلب في الأرض . وفسره أكثر المفسرين بالمبالغة في القتل ، وروي عن البخاري مجاهد وهو تفسير بالسبب لا بمدلول اللفظ ، وفي التفسير الكبير للرازي : قال الواحدي : الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته ، يقال : قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوة المرض عليه ، وكذلك أثخنه الجراح ، والثخانة : [ ص: 73 ] الغلظة . فكل شيء غليظ فهو ثخين . فقوله : حتى يثخن في الأرض معناه : حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر . ثم إن كثيرا من المفسرين قالوا : المراد منه حتى يبالغ في قتل أعدائه . قالوا : وإنما حملنا اللفظ عليه ؛ لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل . قال الشاعر :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
ولأن كثرة القتل توجب الرعب وشدة المهابة ، وذلك يمنع من الجرأة ومن الإقدام على ما لا ينبغي فلهذا السبب أمر الله بذلك اهـ .وأقول : إن من المجربات التي لا شك فيها أن ، أي التمكن والقوة وعظمة السلطان فيها ، وقد يحصل هذا الإثخان بدون ذلك أيضا ، يحصل بإعداد كل ما يستطاع من القوى الحربية ، ومرابطة الفرسان ، والاستعداد التام للقتال الذي يرهب الأعداء كما تقدم في تفسير : الإثخان في قتل الأعداء في الحرب سبب من أسباب الإثخان في الأرض وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ( 8 : 60 ) وما هو ببعيد . وقد يجتمع السببان ، فيكمل بهما إثخان العزة والسلطان . كما أن الإسراف في القتل قد يكون سببا لجمع كلمة الأعداء واستبسالهم .
وأما قوله تعالى في سورة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تسمى سورة القتال أيضا فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ( 47 : 4 ) الآية ، فهو في إثخان القتلى الذي يطلب في معركة القتال بعد الإثخان في الأرض ، فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا لئلا يفضي ذلك إلى ضعفنا ورجحانهم علينا ، إذا كان هذا القتل قبل أن نثخن في الأرض بالعزة والقوة التي ترهب أعداءنا ، حتى إذا أثخناهم في المعركة جرحا وقتلا ، وتم لنا الرجحان عليهم فعلا ، رجحنا الأسر المعبر عنه بشد الوثاق ؛ لأنه يكون حينئذ من الرحمة الاختيارية ، وجعل الحرب ضرورة تقدر بقدرها ، لا ضراوة بسفك الدماء ، ولا تلذذا بالقهر والانتقام ، ولذلك خيرنا الله تعالى فيهم بين المن عليهم وإعتاقهم بفك وثاقهم وإطلاق حريتهم ، وإما بفداء أسرانا عند قومهم ودولتهم إن كان لنا أسرى عندهم بمال نأخذه منهم ، ولم يأذن لنا في هذه الحال بقتلهم ، فقد وضع الشدة في موضعها والرحمة في موضعها . وإذا كان بيننا وبين دولة عهد يتضمن اتفاقا على الأسرى وجب الوفاء به وبطل التخيير بينه وبين غيره . بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى
وأما قوله تعالى بعد هذا التخيير الذي يختار الإمام منه في غير حال العهد الخاص معهم ما فيه المصلحة العامة حتى تضع الحرب أوزارها أي : أثقالها ، وقيل : آثامها . فهو غاية [ ص: 74 ] لما قبله . قالوا : أي إلى أن تنقضي الحرب ، ولم يبق إلا مسلم أو مسالم ، أي بألا يعتدى على المسلمين ذلك الاعتداء الذي يكون به القتال فرض عين عليهم ، وقيل : حتى تزول الحرب من الأرض ويعم السلم ، وهي الغاية العليا التي يتمناها فضلاء البشر من جميع الأمم الراقية ، ولكن الله تعالى بين بعد هذا أن الحرب سنة اجتماعية اقتضتها الحكمة الإلهية في ابتلاء البشر بعضهم ببعض ، ليظهر استعداد كل فريق منهم فقال : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض أي : الأمر ذلك الذي ذكر لكم ، ولو شاء الله لانتصر لكم بإهلاكهم بعذاب من عنده لا جهاد لكم فيه ولا عمل ، ولكن مضت سنته بأن يجعل سعادة الدنيا والآخرة للناس بأعمالهم ليبلو ويختبر بعضكم ببعض - وسنبين ذلك بالتفصيل في تفسير هذه الآية من سورتها إذا أحيانا الله تعالى .
وجملة القول في تفسير الآيتين أن اتخاذ الأسرى إنما يحسن ويكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل ، أما في المعركة الواحدة فبإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين ، وأما في الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء .