ثم قال عز وجل : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض  أي : في النصرة والتعاون على قتال المسلمين ، فهم في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين وإن كانوا مللا كثيرة يعادي بعضها بعضا ، ولما نزلت هذه الآية ، بل السورة لم يكن في الحجاز  منهم إلا المشركون واليهود  ، وكان اليهود  يتولون المشركين وينصرونهم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين بعد ما تقدم تفصيله من عقده ـ صلى الله عليه وسلم ـ العهود معهم ، وما كان من نقضهم لها ، ثم ظهرت بوادر عداوة نصارى الروم  له في الشام  ، وسيأتي بيان ذلك في الكلام على غزوة تبوك  من سورة التوبة وهي المتمة لما هنا من أحكام القتال مع المشركين وأهل الكتاب    . 
وقيل : إن الولاية هنا ولاية الإرث كما قيل بذلك في ولاية المؤمنين فيما قبلها ، وجعلوه الأصل في عدم التوارث بين المسلمين والكفار  ، وبإرث ملل الكفر بعضهم لبعض . وقال بعض المفسرين : إن هذه الجملة تدل بمفهومها على نفي المؤازرة والمناصرة بين جميع الكفار وبين المسلمين  ، وإيجاب المباعدة والمصارمة وإن كانوا أقارب ، وتراهم يقلد بعضهم بعضا في هذا القول . وقولهم : إنه مفهوم الآية أو هو المراد منها غير مسلم ، وقد تقدم النقل بأن صلة الرحم عامة في الإسلام للمسلم والكافر  كتحريم الخيانة . ولا بأس أن نذكر هنا الخلاف في مسألة التوارث بين المختلفين في الدين  وما ورد فيها . 
روى أحمد  والشيخان وأصحاب السنن الأربعة من حديث  أسامة بن زيد  رضي الله تعالى عنهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم قال الحافظ  في الفتح وأخرجه  النسائي  من رواية هشيم  عن  الزهري  بلفظ " لا يتوارث أهل ملتين    " وجاءت رواية شاذة عن  ابن عيينة  عن  الزهري  مثلها ، وله شاهد عند الترمذي  من حديث جابر  ، وآخر من حديث عائشة  عند أبي يعلى  ، وثالث من حديث  عمرو بن شعيب  عن أبيه عن جده في السنن الأربعة ، وسند أبي داود  فيه إلى عمرو  صحيح اهـ . وأقول : إن في كل رواية من الروايات لهذا اللفظ علة ولكن يؤيد بعضها بعضا ، فهشيم  مدلس كثير التدليس وأعدل الأقوال فيه قول ابن سعد    : إذا قال : أخبرنا فهو ثقة وإلا فلا . وهاهنا قال عن  الزهري  ولم يصرح بالسماع منه ، وقد كان كتب عنه صحيفة فقدت منه فكان يحدث   [ ص: 99 ] بما فيها من حفظه ، ونقلوا عنه أنه كان يحدث من حفظه فيحتمل أيضا أنه سمع الحديث بلفظ أسامة فذكره بهذا اللفظ كما رواه به الحاكم  عن أسامة  ، وخالف فيه نص الصحيحين وسائر الجماعة ، ولذلك ذكر عنه ابن كثير  ، وقفى عليه بذكر لفظ الصحيحين ، إشارة إلى ما فيه من علة مخالفة الثقات ، أو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه النافية للصحة ، وليس فيه أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ آية الأنفال والذين كفروا بعضهم أولياء بعض    ( 73 ) كما روى الحاكم    . وحديث  عمرو بن شعيب  عن أبيه عن جده فيه خلاف مشهور والأكثرون يحتجون به . 
ثم قال الحافظ بعد ذكر هذه الرواية وشواهدها : وتمسك بها من قال : لا يرث أهل ملة كافرة أهل ملة أخرى كافرة ، وحملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإسلام ، وبالأخرى الكفر ، فيكون مساويا للرواية التي بلفظ الباب وهو أولى من حملها على ظاهر عمومها ، حتى يمتنع عن اليهودي مثلا أن يرث من النصراني . والأصح عند الشافعية أن الكافر يرث الكافر  وهو قول الحنفية والأكثر ، ومقابله عن مالك  وأحمد  ، وعنه التفرقة بين الذمي والحربي ، وكذا عند الشافعية . وعن أبي حنيفة    : لا يتوارث حربي من ذمي  ، فإن كانا حربيين شرط أن يكونا من دار واحدة ، وعند الشافعية : لا فرق ، وعندهم وجه كالحنفية . وعن  الثوري  وربيعة  وطائفة : الكفر ثلاث : يهودية ونصرانية وغيرهم ، فلا ترث ملة من هذه من ملة من الملتين . وعن طائفة من أهل المدينة   والبصرة  كل فريق من الكفار ملة فلم يورثوا مجوسيا من وثني ولا يهوديا من نصراني ، وهو قول  الأوزاعي  وبالغ فقال : ولا يرث أهل نحلة من دين أحد  أهل نحلة أخرى منه كاليعقوبية والملكية من النصارى  اهـ . وأقرب هذه الأقوال إلى ما عليه تلك الملل قول  الأوزاعي  ومن وافقهم هو ممن قبله . 
ثم قال الحافظ : واختلف في المرتد  ، فقال  الشافعي  وأحمد    : " يصير ماله فيئا للمسلمين . وقال مالك    : يكون فيئا إلا إن قصد بردته أن يحرم ورثته المسلمين فيكون لهم . وكذا قال في الزنديق  ، وعن أبي يوسف  ومحمد    : لورثته المسلمين ، وعن أبي حنيفة    : ما كسبه قبل الردة لورثته المسلمين ، وبعد الردة لبيت المال    " إلخ . 
وذكر الحافظ قبل ذلك ما روي عن معاذ  ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يورث المسلم من الكافر ولا عكس ، ومنه أن أخوين اختصما إليه ، مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديا فحاز ابنه اليهودي ماله فنازعه المسلم فورث معاذ  المسلم   . وروى  ابن أبي شيبة  مثل هذا عن معاوية  قال : نرث أهل الكتاب  ولا يرثونا ، كما يحل لنا النكاح منهم ، ولا يحل لهم منا ، وبه قال مسروق   وسعيد بن المسيب   وإبراهيم النخعي  وإسحاق  اهـ . وعليه الإمامية  وبعض الزيدية    . 
إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير  أي : إن لم تفعلوا ما ذكر وهو ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض ، وتناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم .   [ ص: 100 ] ومن الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار  إلى أن ينقضي عهدهم أو ينبذ على سواء - يقع من الفتنة والفساد الكبير في الأرض ما فيه أعظم الخطر عليكم ، بتخاذلكم وفشلكم المفضي إلى ظفر الكفار بكم واضطهادكم في دينكم لصدكم عنه كما كانوا يفتنون ضعفاءكم بمكة  قبل الهجرة ، وقيل : إن لم تفعلوا ما أمرتم به في الميراث ، وهو قول  ابن عباس  وتقدم ما فيه ، وقد ذكره عنه البغوي  هنا ثم قال : وقال  ابن جرير    : إلا تعاونوا وتناصروا ، وقال  ابن إسحاق    : جعل الله المهاجرين  والأنصار  أهل ولاية في الدين دون من سواهم ، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض ، ثم قال : إلا تفعلوه  وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن تكن فتنة في الأرض وفساد كبير  فالفتنة في الأرض : قوة الكفر ، والفساد الكبير : ضعف الإسلام اهـ . 
وأقول : الأظهر أن الفتنة في الأرض ما ذكرنا من اضطهادهم المسلمين وصدهم عن دينهم ، كما يدل عليه ما سبق في هذه السورة ، وفي سورة البقرة ، وهي من لوازم قوة الكفر وسلطان أهله الذي كانوا عليه ، ولا يزال الذين يدعون حرية الدين منهم في هذا العصر يفتنون المسلمين عن دينهم حتى في بلاد المسلمين أنفسهم ، بما يلقيه دعاة النصرانية منهم من المطاعن فيه وفي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبما يغرون به الفقراء من العوام الجاهلين من المال وأسباب المعيشة ، كذلك الفساد الكبير من لوازم ضعف الإسلام الذي يوجب على أهله تولي بعضهم لبعض في التعاون والنصرة  وعدم تولي غيرهم من دونهم ، ويوجب على حكومته القوية العدل المطلق والمساواة فيه بين المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والقوي والضعيف ، والغني والفقير ، والقريب والبعيد - كما تقدم شرحه مرارا - والذي يحرم الخيانة ونقض العهود حتى مع الكفار كما تقدم في هذه السورة أيضا مفصلا وذكرنا به آنفا . ومن وقف على تاريخ الدول الإسلامية التي سقطت وبادت والتي ضعفت بعد قوة ، يرى أن السبب الأعظم لفساد أمرها ترك تلك الولاية أو استبدال غيرها بها ، ومن الظاهر الجلي أن مسألة التوارث لا تقتضي هذه الفتنة العظيمة ، ولا هذا الفساد الكبير . 
وقال ابن كثير  في تفسير هذه الشرطية : أي : إن لم تجانبوا المشركين ، وتوالوا المؤمنين وقعت فتنة في الناس ، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين ، يقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل . اهـ . وأقول : إن اختلاط المؤمنين الأقوياء في إيمانهم بالكافرين سبب قوي لانتشار الإسلام وظهور حقيته وفضائله  كما وقع بعد صلح الحديبية  ، ولذلك سماه الله تعالى فتحا مبينا . وكذلك كان انتشار المسلمين في كثير من بلاد الكفر بقصد التجارة سببا لإسلام أهلها كلهم أو بعضهم كما وقع في جزائر الهند الشرقية    ( جاوه وما جاورها ) وفي أواسط إفريقية    . فهذا القول على إطلاقه ضعيف بل مردود ، وإنما يصح في حال ضعف   [ ص: 101 ] المسلمين في الدين والعلم ، واختلاطهم بمن هم أعلم منهم بالجدل ، وإيراد الشبهات في صورة الحجج مع تعصبهم في كفرهم ودعوتهم إليه ، كحال هذا الزمان في بلاد كثيرة ، ولولا هذا التنبيه لما نقلت هذا القول . 
ورجح  ابن جرير  بعد نقل الخلاف قول من قال : إن هذا في ولاية التناصر والتعاون ووجوب الهجرة في ذلك العهد ، وتحريم المقام في دار الحرب ، وعلله بأن المعروف المشهور في كلام العرب من معنى الولي أنه النصير والمعين ، أو ابن العم والنسيب ، فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه . ثم قال ما نصه : وإذا كان ذلك كذلك تبين أن أولى التأويلين بقوله : إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير  تأويل من قال : إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين " إلخ . 
				
						
						
