حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا ، أي قاتلوا من ذكر عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم ، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد أمنكم وسلامتكم . كما فعل الروم ، فكان سببا لغزوة تبوك ، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية في الحالين اللذين قيدت بهما . فالقيد الأول لهم ، وهو أن تكون صادرة " عن يد " أي قدرة وسعة ، فلا يظلمون ويرهقون . والثاني لكم ، وهو الصغار المراد به خضد شوكتهم ، والخضوع لسيادتكم وحكمكم ; وبهذا يكون تيسير السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم التي يرونكم أقرب بها إلى هداية أنبيائهم منهم . فإن أسلموا عم الهدى والعدل والاتحاد ، وإن لم يسلموا كان الاتحاد بينكم وبينهم بالمساواة في العدل ، ولم يكونوا حائلا دونهما في دار الإسلام . والقتال لما دون هذه الأسباب التي يكون بها وجوبه عينيا أولى بأن ينتهي بإعطاء الجزية ، بالشروط التي تعقد بها الجزية ، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين ، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين ، ويسمون ومتى أعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم ، والدفاع عنهم وحريتهم في دينهم أهل الذمة ; لأن كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأما الذين يعقد الصلح بيننا وبينهم بعهد وميثاق يعترف به كل منا ومنهم باستقلال الآخر [ ص: 256 ] فيسمون بأهل العهد والمعاهدين ، وتقدم بيان ذلك في تفسير سورة الأنفال ، ولا بأس بأن نبسط القول من مسألة الجزية لتقصير المفسرين في بيانها فنقول : ( فصل في ) حقيقة الجزية والمراد منها
الجزية ضرب من الخروج يضرب على الأشخاص لا على الأرض ، جمعها جزى كسدرة وسدر ، واليد السعة والملك أو القدرة والتمكن ، والصغار ( بالفتح ) والصغر ( كعنب ) وهو ضد الكبر ، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية ، والمراد به هنا الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته الذي تصغر به أنفسهم لديهم بفقدهم الملك ، وعجزهم عن مقاومة الحكم . قال الراغب : الصاغر الراضي بالمنزلة الدنية ، وقال الإمام رحمه الله في الأم : وسمعت عددا من أهل العلم يقولون : الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام اهـ . ومن المفسرين من قال في الآية أقوالا يأباها عدل الإسلام ورحمته . الشافعي
وظاهر كلام اللغويين المفسرين أن لفظ الجزية عربي محض من مادة الجزاء . وهل هي جزاء حقن الدم ، أو جزاء الحماية لهم والدفاع عنهم من غير تكليفهم التجند للقتال معنا ، أو جزاء إعطاء الذمي حقوق المسلمين ومساواتهم بأنفسهم في حرية النفس والمال والعرض والدين ؟ وجوه أضعفها أولها وسيأتي بسط القول في ثانيها .
قال صاحب اللسان : والجزية خراج الأرض وجزية الذمي منه . الجوهري والجزية ما يؤخذ من أهل الذمة والجمع الجزى مثل لحية ولحى ، وقد تكرر في الحديث ذكر الجزية في غير موضع ، وهي عبارة عن المال الذي يعقد الكتابي عليه الذمة ، وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله . ومنه الحديث أراد أن الذمي إذا أسلم وقد مر بعض الحول لم يطالب من الجزية بحصة ما مضى من السنة . وقيل : أراد أن الذمي إذا أسلم وكان في يده أرض صولح عليها خراج توضع عن رقبته الجزية ، وعن أرضه الخراج إلخ . ليس على مسلم جزية
وقد حقق شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني الهندي ( رحمه الله ) في رسالة له نشرت في المجلد الأول من المنار ، أن لفظ الجزية معرب وأصله فارسي ( كزيت ) وأن معناها الخراج الذي يستعان به على الحرب ، وأورد على الأول بعض الشواهد من الشعر الفارسي ، ثم ذكر أن في المسألة احتمالين . ( أحدهما ) أن هذا اللفظ وجد في اللغتين ، فالأولى أن يقال إنه مما اتفقتا فيه ، وتوافق اللغات في الأمور التي توجد معانيها عند الأمم الناطقة بها شائع معروف ( والثاني ) أن الكلمة أصيلة في الفارسية دخيلة في العربية كأمثالها مما أخذه العرب من مجاوريهم [ ص: 257 ] من الفرس وهضمتها لغتهم ، واستدل على ذلك بأمور ، منها ما لا يدل على الدعوى دلالة صحيحة كثبوت أخذ العرب عن العجم بعض الألفاظ كالكوز والإبريق والطست ، وكزعمه أن العرب لم يتفق لهم وضع ألفاظ للمعاني الخاصة بالمدنية والعمران كالوزير والصاحب والعامل والتوقيع ، لما كانوا عليه من البؤس وعدم الاستيلاء والاستعباد لغيرهم من الأمم ، والأول : حق غير دال ، والثاني : باطل في نفسه فعدم دلالته على ذكر أولى . والحق أن كل أمة تجاور أمة وتخالطها تأخذ شيئا من لغتها فتعتاده فيدخل في لغتها وإن كان عندها مرادف له ، وهكذا ما وقع بين العرب والعجم ، ومعرفة السابق لبعض الألفاظ المشتبهة من الأمتين فيه عسر شديد ، وقد سبق للعرب مدنيات قديمة في جزيرتهم أيضا من خصائص الملكية ، كفوا مؤنة وضع لفظ بإزائها " محتمل غير حقيق . وأقوى منه ما بعده ، وهو مفيد سواء كان اللفظ أصيلا في العربية أو معبرا دخيلا ، لأنه بيان للمعنى المراد من اللفظ بدلالة الاستعمال فننقله بنصه وهو : ( ومنها ) أن الحيرة - وكانت منازل آل نعمان - كانت تدين للعجم وتؤدي إليهم الإتاوة والخراج ، ولما كان كسرى أنوشروان هو الذي سن الجزية أولا كما نبينه فيما سيأتي ، يغلب على الظن أن العرب أول ما عرفوا الجزية في ذلك العهد وتعاوروا اللغة العجمية بعينها ، ومن مساعدة الجد أن اللفظ كانت زنته زنة العربي فلم يحتاجوا في تعريبه إلى كبير مؤنة بعد ما أبدل كافها جيما صارت كأنها عربي الأصل والنجار . ومع هذه كلها فإن هذا البحث لا يهمنا ولا يتعلق به كبير غرض ، فإن إثبات ما نحن بصدده لا يتوقف على الكشف عن حقيقة اللفظ ، فنحن في غنى عن إطالة الكلام وإسهابه في أمثال هذه الأبحاث .
( الثاني ) فيما علمنا أول من سن الجزية كسرى أنوشروان ، وهو الذي رتب أصولها وجعلها طبقات . قال الإمام العلامة المحدث يذكر ما فعله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في أمر الخراج والجزية : وألزموا الناس ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتلة والمرازبة والكتاب ومن كان في خدمة الملك ، وصيروها على طبقات : اثني عشر درهما ، وثمانية ، وستة ، وأربعة ، بقدر إكثار الرجل أو إقلاله ، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السن دون العشرين وفوق الخمسين . كسرى
ثم قال . " وهي الوضائع التي اقتدى بها حين افتتح بلاد عمر بن الخطاب الفرس " وقال المؤرخ الشهير - وهو أقدم زمانا من أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري - في كتابه الأخبار الطوال في ذكر الطبري كسرى أنوشروان : " ووظف الجزية على أربع طبقات ، وأسقطها عن أهل البيوتات والمرازبة والأساورة والكتاب ومن كان في خدمة الملك ، ولم يلزم أحدا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز الخمسين " .
[ ص: 258 ] ومن وقف على هذه النصوص يظهر له أن الجزية مأثورة من آل كسرى ، وأن الشريعة الإسلامية ليست بأول واضع لها ، وأن رفع الجزية عن الجند والمقاتلة وأن كسرى اقتدى بهذه الوضائع . عمر بن الخطاب
أما المعنى الذي توخاه في هذا الاستثناء فبينه العلامة كسرى ابن الأثير في كتابه الكامل ناقلا عن كلام فقال : " ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة ، وأهل العمارة أجراء للمقاتلة ، فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان ; لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم عمن وراءهم ، فحق على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم ، فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم ، ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل الخراج والعمارة ، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم ، وتركت على أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤنتهم وعمارتهم ، ولم أجحف بواحد من الجانبين " . كسرى
وحاصله أنه يجب على كل فرد من أفراد الملة المدافعة عن نفسه وماله ، فمن كان يقوم بهذه العبء بنفسه فليس عليه شيء - وهؤلاء أهل الجند والمقاتلة ، وأما من كان يشغله أمر العمارة وتدبير الحرث عن المخاطرة بالنفس ، فيحق عليه أن يؤدي شيئا معلوما في كل سنة يصرف في وجوه حمايته والدفاع عنه . وهذا هو المعني بالجزية ، فإنها تؤخذ من أهل العمارة وتعطى للمقاتلة والجند الذين نصبوا أنفسهم لحماية البلاد واستتباب وسائل الأمن والسلامة لكافة العباد .
( الثالث ) أن الشريعة الإسلامية ، وإن لم يكن شأنها شأن الملكية والسلطنة بل الغاية التي توخاها الشرع ليست إلا تكميل النفس وتطهير الأخلاق ، والحث على الخير ، والردع عن الإثم ، ولكن لما كانت هذه الأمور يتوقف حصولها على نوع من السياسة الملكية لم تكن الشريعة لتنقل عنها كليا ، فاختارت جملة من الوضائع تكون مع سذاجتها كافلة لانتظام أمر الناس وإصلاح ارتفاقاتهم .
ومن ذلك الذب عن حمى الإسلام والدفع عن بيضة الملك ، وإزاحة الشر وبسط الأمن ، واستتباب الراحة ، فجعل الجهاد فرضا محتوما على كل أحد ممن دخل في الإسلام ، إما كفاية وهذه إذا لم يكن النفير عاما ، وإما عينا إذا هاجم العدو البلد وعم النفير ، قال في الهداية : الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين ، فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه ، إلا أن يكون النفير عاما فحينئذ يصير من فروض الأعيان . الجهاد والقتال ، المقصود بهما
فالمسلم لا يخلو من إحدى الخطتين . إما مرتزق ، وهو من دخل في العسكر ونصب [ ص: 259 ] للقتال نفسه ، أو متطوع ، وهو من لم يأخذ نصيبه من الجهاد ، ولكن إذا جاءت الطامة ووقع النفير لا يمكنه الاعتزال عن القتال والتنحي عنه ، بل عليه أن يدخل فيما دخل المسلمون طوعا أو كرها .
وإذا كان من المسلم الثابت أن المرتزق والمتطوع سيان في الحقوق الكلية التي تمنح للعسكر ، كان من الحق الواضح أن يعفى المسلمون كلهم من ضريبة الجزية ، أما أهل الذمة فما كان يحق للإسلام أن يجبرهم على مباشرتهم القتال في حال من الأحوال ، بل الأمر بيدهم ، رضوا بالقتال عن أنفسهم وأموالهم عفوا عن الجزية ، وإن أبوا أن يخاطروا بالنفس فلا أقل من أن يسامحوا بشيء من المال وهي الجزية ، ولعلك تطالبني بإثبات بعض القضايا المنطوية في هذا البيان ، أي إثبات أن الجزية ما كان تؤخذ من الذميين إلا للقيام بحمايتهم والمدافعة عنهم ، وأن الذميين لو دخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لعفوا عن الجزية ، فإن صدق ظني فاصغ إلى الروايات التي تعطيك الثلج في هذا الباب وتحسم مادة القيل والقال .
( فمنها ) ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل فيها وهذا نصه : " هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه ، إني عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة وما منعناكم ( أي حميناكم ) فلنا الجزية وإلا فلا ؟ كتب سنة اثنتي عشرة في صفر " .
( ومنها ) ما كتب نواب العراق لأهل الذمة وهاك نصه : " براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها خالد والمسلمون ، لكم يد على من بدل صلح خالد ما أقررتم بالجزية وكنتم . أمانكم أمان ، وصلحكم صلح ، ونحن لكم على الوفاء " .
( ومنها ) ما كتب أهل ذمة العراق لأمراء المسلمين وهذا نصه : " إنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالدا على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم " .
( ومنها ) المقاولة التي كانت بين المسلمين وبين يزدجرد ملك فارس حينما وفدوا على يزدجرد وعرضوا عليه الإسلام ، وكان هذا في سنة أربع عشرة في عهد ، وكان من جملة كلام عمر بن الخطاب نعمان الذي كان رئيس الوفد : " وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم " .
( ومنها ) المقاولة التي كانت بين حذيفة بن محصن وبين رستم قائد الفرس ، وحذيفة هو الذي أرسله وافدا على سعد بن أبي وقاص رستم في سنة أربع عشرة في عهد ، وكان في جملة كلامه : " أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك " فانظر إلى هذه الروايات الموثوق بها ، كيف قارنوا بها بين الجزية والمنعة وكيف صرح عمر بن الخطاب خالد في [ ص: 260 ] كتابه بأنا لا نأخذ منكم الجزية إلا إذا منعناكم ودفعنا عنكم ، وإن عجزنا عن ذلك فلا يجوز لنا أخذها .
وهذه المقاولات والكتب مما ارتضاها عمر وجل الصحابة ، فكان سبيلها سبيل المسائل المجمع عليها . قال الإمام ، وهو أحد الأئمة الكبار : أخذ " أي سواد الشعبي العراق " عنوة وكذلك كل أرض إلا الحصون ، فجلا أهلها فدعوا إلى الصلح والذمة فأجابوا وتراجعوا فصاروا ذمة وعليهم الجزاء ولهم المنعة ، وذلك هو السنة كذلك منع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدومة .
ولا تظنن أن شرط المنعة في الجزية إنما كان يقصد به مجرد تطيب نفوس أهل الذمة ، وإسكان غيظهم ولم يقع به العمل قط ، فإن من أمعن النظر في سير الصحابة ، واطلع على مجاري أحوالهم ، عرف من غير شك أنهم لم يكتبوا عهدا ، ولا ذكروا شرطا إلا وقد عضوا عليها بالنواجذ ، وأفرغوا الجهد في الوفاء بها ، وكذلك فعلهم في الجزية التي يدور رحى الكلام عليها - فقد روى في كتاب الخراج عن القاضي أبو يوسف مكحول أنه لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم ، وحسن السيرة فيهم ، صاروا أشداء على عدو المسلمين وعيونا للمسلمين على أعدائهم ، فبعث أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعا لم ير مثله ، فأتى رؤساء أهل كل مدينة الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم فأخبروه بذلك ، فكتب والي كل مدينة ممن خلفه أبو عبيدة إلى أبي عبيدة يخبره بذلك ، وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين ، فكتب أبو عبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبى منهم من الجزية والخراج ، وكتب إليهم أن يقولوا لهم : إنما رددنا عليكم أموالكم ; لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع ، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك ، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط ، وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم . فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا : " ردكم الله علينا ونصركم عليهم ، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء بقي حتى لا يدعوا شيئا " .
وقال العلامة البلاذري في كتابه فتوح البلدان : حدثني أبو جعفر الدمشقي قال : حدثنا قال : بلغني أنه لما جمع سعيد بن عبد العزيز هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج قالوا : " قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم " فقال أهل حمص : " لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم . ونهض اليهود فقالوا : والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص [ ص: 261 ] إلا أن نغلب ونجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود ، وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنا عليه ، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد " .
وقال العلامة الأزدي في كتابه فتوح الشام يذكر إقبال الروم على المسلمين ، ومسير أبي عبيدة من حمص : " فلما أراد أن يشخص دعا فقال : اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم ، فإنه لا ينبغي لنا إذ لا نمنعهم - أن نأخذ منهم شيئا ، وقل لهم : نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح ، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه ، وإنما رددنا عليكم أموالكم ; لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم " فلما أصبح أمر الناس أن يرتحلوا إلى حبيب بن مسلمة دمشق ، ودعا القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال ، فأخذ يرده عليهم وأخبرهم بما قال حبيب بن مسلمة أبو عبيدة ، وأخذ أهل البلد يقولون : " ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم ، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا بل غصبونا وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا " وقال أيضا يذكر دخول أبي عبيدة دمشق : " فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين ، وأمر سويد بن كلثوم القرشي أن يرد على أهل دمشق ما كان اجتبى منهم الذين كانوا أمنوا وصالحوا ، فرد عليهم ما كان أخذ منهم ، وقال لهم المسلمون : نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم ونحن معيدون لكم أمانا " .
أما ما ادعينا من أن أهل الذمة إذا لم يشترطوا علينا المنعة أو شاركونا في الذب عن حريم الملك لا يطالبون بالجزية أصلا ، فعمدتنا في ذلك أيضا صنيع الصحابة ، وطريق عملهم ، فإنهم أولى الناس بالتنبه لغرض الشارع وأحقهم بإدراك سر الشريعة . والروايات في ذلك وإن كانت جمة نكتفي هنا بقدر يسير يغني عن كثير .
( فمنها ) كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان وأهل دهستان وهاك نصه بعينه " هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان ، إن لكم الذمة وعلينا المنعة على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا عن جزائه ، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم ، ولا يغير شيئا من ذلك ، شهد سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس . وكتب في سنة 108 هـ ( طبري ص2658 ) .
( ومنها ) الذي كتبه عتبة بن فرقد أحد عمال وهذا نصه : هذا ما أعطى عمر بن الخطاب عتبة بن فرقد عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أهل أذربيجان سهلها [ ص: 262 ] وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم ، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة ، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك " اهـ ( طبري صحيفة 2262 ) .
( ومنها ) العهد الذي كان بين سراقة عامل ، وبين عمر بن الخطاب شهر براز كتب به سراقة إلى عمر فأجازه وحسنه وهاك نصه :
" هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهر براز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان ، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاروا ولا ينقضوا ، وعلى أرمينية والأبواب الطراء منهم والتناء ومن حولهم ، فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة ، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحا على أن يوضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك ، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء ، فإن حشروا وضع ذلك عنهم . شهد عبد الرحمن بن ربيعة ، وسليمان بن ربيعة ، . وكتب وبكير بن عبد الله مرضي بن مقرن وشهد " اهـ . ( طبري 2665 و 2666 ) .
( ومنها ) ما كان من أمر الجراجمة ، وقد أتى العلامة البلاذري على جملة من تفاصيل أحوالهم فقال : حدثني مشايخ من أهل أنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل لكام ، عند معدن الزاج ، فيما بين بيامن وبوقا ، يقال لها : الجرجومة ، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام ، وأنطاكية إلى بطريق أنطاكية وواليها ، فلما قدم أبو عبيدة أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم ، إذ خافوا على أنفسهم ، فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم ، ثم إن أهل أنطاكية نقضوا وغدروا فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية ، وولاها بعد فتحها ، فغزا حبيب بن مسلم الفهري الجرجومة فلم يقاتله أهلها ، ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح ، فصالحوه على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وعيونا ومسالح في جبل اللكام ، وألا يؤخذوا بالجزية " ثم إن الجراجمة مع أنهم لم يوفوا ونقضوا العهد غير مرة لم يؤخذوا بالجزية قط ، حتى إن بعض العمال في عهد الواثق بالله العباسي ألزمهم جزية رؤوسهم فرفعوا ذلك إلى الواثق فأمر بإسقاطها عنهم اهـ .
وقد اختصر النعماني رحمه الله خبر الجراجمة بقوله : ثم إن الجراجمة إلخ ، وفي سائر خبرهم في البلاذري من غدرهم ونقضهم للعهد ، ومظاهرتهم للعدو وحسن معاملة الأمويين والعباسيين لهم ولغيرهم ، ما يفتخر به التاريخ الإسلامي العربي بالعدل والفضل . والشاهد هنا وضع الجزية عنهم بعد تكرار غدرهم .