فصل
( في دار الإسلام والعدل ، ودار الحرب والبغي ، وحقوق الأديان والأقوام في هذا العصر )
جرى اصطلاح فقهاء المسلمين على تسمية البلاد التي تنتظم في سلك دولتهم ، وتنفذ فيها شريعتهم " " ، لأن العدل واجب فيها في جميع أهلها بالمساواة ، ويسمون ما يقابلها " دار الحرب " ولكل منها أحكام مبسوطة في كتبهم ، ويسمى أهل دار الحرب " الحربيين " إن كانوا معادين مقاتلين للمسلمين ، " والمعاهدين " إن كان بين الفريقين عهد وميثاق على السلم وحرية المعاملة في التجارة وغيرها ، وإن خرج على إمام المسلمين طائفة منهم سموا البغاة ، فإن أسسوا حكومة تغلبوا بها على بعض البلاد سموا المتغلبين أو المتغلبة ، وتسمى دار الإسلام في مقابلة ذلك بـ " دار العدل " ولكل دار أحكام ، فأين دار الإسلام ؟ . دار الإسلام ودار العدل
[ ص: 275 ] تقدم آنفا أن " الحربيين " إذا هاجموا دار الإسلام واستولوا على شيء منها صار القتال فرضا عينيا على المسلمين ، فإذا أعلن الإمام النفير العام وجب على كل فرد منهم أن يطيعه بما يقدر عليه من الجهاد بنفسه وبماله ، وتجب طاعته فيما دون ذلك بالأولى كأن يستنفر بعضهم دون بعض ، ويفرض المال الناطق والصامت على بعض الناس دون بعض ، على ما يجب عليه في هذا وغيره من مراعاة العدل . وهذا الحكم هو الذي تجري عليه الدول الأوروبية وغيرها في هذا العصر ، وإنما أعدنا ذكره لنذكر المسلمين وغير المسلمين من العارفين بأحكام الإسلام بأن السكوت عن هذه المسألة لا يمكن أن يطول بعد أن استيقظ العالم الإسلامي كغيره من شعوب الشرق من رقاده الطويل ، وطفق يبحث في ماضيه وحاضره ، وما ينبغي أن يكون عليه الأمر في مستقبله ، وهاتف الإيمان يهتف في أعمال سريرته مذكرا إياه بما أوجبه الله عليه من إعادة تلك الدار الواسعة ، أو الممالك الشاسعة ، وإقامة تلك الشريعة العادلة ، وإحياء تلك الهداية الشاملة لتضيء للبشر الطريق للخروج من ظلمات هذا الاضطراب النفسي ، والفوضى الاجتماعية ، والسرف الشهواني ، التي أحدثتها الأفكار المادية ونزعات الإلحاد والحكم البلشفي الذي هو شر نتائجها ، فقد عجزت بقايا هداية النصرانية عن صد غشيان هذه الظلمات لأعظم ممالكها ، بعد أن ثارت سحبها من أفق مدارسها ، فكيف تقوى على تقشيع هذه السحب بعد تكاثفها ، وقد كانت هي نفسها من أسباب حدوثها ؟ .
هذا ما يفكر فيه خواص المسلمين في هذا العهد ويشاركهم الدهماء فيما هو من ضروريات الإسلام ، وهو أنه دين سيادة وسلطان وتشريع ، وحكومة شورية يحميها نظام حربي جامع بين القوة والرحمة والعدل ، وأنه قد اعتدى عليه الفاتحون المستعمرون فسلبوا ممالكه العامرة الخصبة أولا ، ثم هاجموه في مهد ولادته ، وبيت تربيته ، ومعقل قوته ( وهو جزيرة العرب ) حتى وصل عداونهم إلى مشرق نوره ، وقبلة صلاته ، ومشاعر نسكه ، وروضة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( وهو الحجاز ) حيث حرم الله وحرم رسوله ، باستيلائهم على السكة الحديدية الحجازية في سورية وفلسطين ، وبما ألحقوه بشرق الأردن من أرض الحجاز نفسها .
كان المعتدون على دار الإسلام يحسبون كل حساب لقيام المسلمين بنهضة عامة باسم ( الجامعة الإسلامية ) لاستعادة ما سلب منهم ، وكانوا يحسبون كل حساب لتعلقهم بالدولة العثمانية ، وقد اعترفوا لها بمنصب ( الخلافة الإسلامية ) فما زالوا يجاهدون هذه الخلافة وتلك الجامعة بأنواع الجهاد المقرر في الشريعة الإسلامية ، وهي : السيف ، والمال ، واللسان ، والقلم ( أي العلم ) حتى صرفوا وجوه الشعوب الإسلامية عن الجامعة الإسلامية إلى الجامعتين الجنسية والوطنية ، وهدموا هيكل الخلافة العثمانية بأيدي حماتها من الترك أنفسهم ، ودفعوا [ ص: 276 ] حكومة هذا الشعب الإسلامي الباسل من حيث لا تدري إلى محاربة الدين الإسلامي نفسه بأشد من محاربتهم هم له بمدارسهم التبشيرية ، واللادينية ، وبكتبهم وصحفهم ونفوذهم ، فاعتقدوا أنه قد تم لهم بهذا فتح العالم الإسلامي ، وأنه لم يبق عليهم لإتمام هذا الفتح إلا القضاء الأخير على مهده الديني ، وعلى شعبه وأنصاره من قوم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا ما جرأهم على ما أشرنا إليه آنفا وكانوا فيه مخطئين ، وفي محاولته مسيئين ، وكنا من إساءتهم مستفيدين .
أما الخلافة العثمانية المتغلبة فكانت هيكلا وهميا خادعا للمسلمين باتكالهم عليه ، فلم تتوجه هممهم إلى الرجوع إلى قواهم الذاتية ، ولاسيما قوة الولاية والتعاون ، وما تقتضيه من علم وعمل ، وإنما كانت الدولة العثمانية سياجا لمن يعمل للإسلام ولها باعتراف الدول لها بالحقوق الدولية ، وبما كانت تحافظ عليه من القوة العسكرية ، وكان أفراد العلماء والسياسيين كالأستاذ الإمام يعلمون أن هذا السياج ضعيف ، وعرضة للزوال القريب ، وأنه يجب العمل من ورائه مع عدم الاتكال عليه بحال من الأحوال ، بعد ما ثبت أنه لا سبيل إلى تقويته بضرب من ضروب الإصلاح ، ولكن الجهل العام حال دون الاهتداء بآراء هؤلاء العقلاء التي جرينا عليها في مجلتنا ( المنار ) بأصرح مما كانوا يصرحون أو يبيحون ، ومن ثم كان زوال الخلافة العثمانية نافعا لا ضارا .
وأما الجامعة الإسلامية فلم تكن أمرا واقعا بالفعل ، كما حققنا ذلك في المنار من قبل ، وإنما كانت أمرا تقتضيه العقيدة والمصلحة ، ويحول دونه الجهل العام ، ولاسيما جهل الرؤساء والزعماء من الحكام وغيرهم ، ويقظة المقاومين لهم ، وستدخل في هذا العصر في طور من النظام تبلج نور فجره في المؤتمر الإسلامي الأول بمكة المكرمة .
وأما التفرقة الجنسية والوطنية بين الشعوب الإسلامية ، فقد كان له أصل ووجود بما كان من عصبية الأعاجم لأجناسهم ، ولاسيما الترك الذين كان من قواعد سياستهم احتقار العرب ، وهضم حقوقهم حتى في مصر التي كان الأعاجم الحاكمون فيها فئة قليلة ، وكان احتقارهم للمصريين ، والتعبير عنهم بلقب فلاح وفلاحين أكبر أسباب الثورة العرابية ، واحتلال الإنكليز لمصر - ولكن التعاليم الأوربية قد أفادت هذه الشعوب المستيقظة قوة جديدة عصرية تجاهد بها المستعبدين بسلاحهم المعنوي الذي لا يفل حده ، ولا يجزر مده ، وهو قوة وحدة الشعب ، ومطالبته بحقه الطبيعي في حكم نفسه بنفسه ، مع عطف أهل كل دين ومذهب فيه على إخوانهم الوطنيين في كل ما يرونه من حقوقهم الملية العامة حتى في خارج وطنهم . كما نرى في عطف وثني الهند ومساعدتهم للمسلمين فيما يطالبون به من حقوق الإسلام في فلسطين .
[ ص: 277 ] وأهم المسائل الإسلامية التي تدور في هذا العهد بين كبار عقلاء المسلمين من جميع الأقطار ويتهامسون بها سرا - مسألة . وأرى أنه يجوز لي أن أفشي الآن من سرها ما يعين على تمحيصها ، فأقول : إن لهم فيها أربعة آراء : - ( 1 ) الرأي الأول وهو أقرب الآراء إلى نصوص جمهور الفقهاء - أن كل ما دخل من البلاد في محيط سلطان الإسلام ونفذت فيها أحكامه وأقيمت شعائره قد صار من ( دار الإسلام ) ووجب على المسلمين عند الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجوبا عينيا كانوا كلهم آثمين بتركه ، وأن استيلاء الأجانب عليه لا يرفع عنهم وجوب القتال لاسترداده ، وإن طال الزمان . فعلى هذا الرأي يجب على مسلمي الأرض إزالة سلطان جميع الدول المستعمرة لشيء من الممالك الإسلامية ، وإرجاع حكم الإسلام إليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا . وعجزهم الآن عن ذلك لا يسقط عنهم وجوب توطين أنفسهم عليه ، وإعداد ما يمكن من النظام والعدة له ، وانتظار الفرص للوثوب والعمل . ( دار الإسلام ) التي يفترض على العالم الإسلامي كله الجهاد بالنفس والمال والعلم والعمل لإعادتها
وهذا الرأي يوافق القاعدة التي وضعها أحد وزراء الإنكليز للتنازع بين المسلمين والنصارى في الغلب والسلطان وهي ( ما أخذ الصليب من الهلال لا يجوز أن يعود إلى الهلال ، وما أخذ الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب ) .
وعلى هذا الرأي يجري اليهود الذين يطالبون بإعادة ملك إسرائيل إلى بلاد فلسطين ، بل هم لا يكتفون بإعادة الملك ( بضم الملك ) بل يطلبون جعل الملك ( بالكسر ) وسيلة له فهم يحاولون سلب رقبة الأرض من أهلها العرب بمساعدة الإنكليز .
ونحن معاشر المسلمين ننكر على الإنكليز واليهود ما ذكر ، ونعده غلوا وبغيا وأثرة منهم ، ومن قلة الإنصاف أن نرضى لأنفسنا ما ننكره على غيرنا . دع ما في الدعوة إلى هذا المطلب الكبير ، من الغرور والتغرير .
( 2 ) الرأي الثاني : أن ( دار الإسلام ) ما كان داخلا في حكم الخلافة الإسلامية الصحيحة ، وهي خلافة الراشدين والأمويين والعباسيين جميعا دون غيره مما فتحته دول الأعاجم ، ولم ينفذ فيه حكم خليفة قرشي . وهذا الرأي قريب مما قبله في بعده عن المعقول . على نزاع في دليله من المنقول .
( 3 ) الرأي الثالث : أن ( دار الإسلام ) الحق هي ما فتح فتحا إسلاميا روعي في حربه وسلمه دعوة الإسلام وجزيته وصلحه وتنفيذ حكم الله فيه ، وإعلاء كلمته ، وإقامة الحق والعدل في الناس كلهم ، ولا يمكن الجزم بذلك إلا فيما فتحه أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان الغالب على من بعدهم طلب الملك والتمتع بالسلطان والنعيم ، فالواجب [ ص: 278 ] على جميع المسلمين أن يسعوا لإعادة هذه البلاد إلى حكم الإسلام الحق بأن يضع عقلاؤهم لذلك نظاما يدعون إليه دعوة عامة ، ويجمعون المال الذي يمكنهم من السعي إليه .
( 4 ) الرأي الرابع : أن ( دار الإسلام ) قسمان : ( الأول ) مهده ومشرق نوره ومصدر قوته ، وموطن قوم الرسول صلوات الله عليه وعلى آله وهو جزيرة العرب . ( والثاني ) بيئة حضارته العربية ومظهر عدالته التشريعية ، وينبوع حياته الاقتصادية ، وهو سورية الشاملة لفلسطين ، والعراق العربي ، ومصر وإفريقية ، وهذه الأقطار هي التي عمت فيها لغة الإسلام العربية ، ورسخت فنسخت ما كان فيها من لغات أخرى ; لأن أكثر سكانها الأصليين من السلائل العربية الذين تغلغلوا فيها من عصور التاريخ الأولى ، فلم يبق عند علماء الأجناس البشرية ولغاتها شك في أن الفينيقيين سكان سواحل سورية الأولين المعمرين - من عرب سواحل البحرين ونجد - وأن امتزاج اللغة العربية بالهيروغليفية القديمة دليل على أن قدماء المصريين والعرب من عرق واحد إن لم يكونا من عرقين امتزجا واتحدا منذ ألوف السنين .
ولكن المصريين قد رسخت في زعمائهم المدنيين عصبية الوطنية فلا مجال الآن لمطالبتهم بعمل سياسي لإعادة دار الإسلام بعد ما كان من مقاومتهم لمؤتمر الخلافة الذي عقده علماء الأزهر ، وبعض أهل الرأي من غيرهم ، وحسب الإسلام منهم إعلاء شأنه بإحياء لغته وعلومه وهدايته . فانحصر الرجاء في جزيرة العرب وما يتصل بها من سورية والعراق اللذين يعدهما بعض الناس منها .