وقالت النصارى المسيح ابن الله هذا القول كان يقوله القدماء منهم ، ويقصدون به معنى مجازيا كالمحبوب والمكرم ، ثم سرت إليهم فلسفة الهنود في ( كرشنا ) وغيرهم من قدماء الوثنيين ، ثم اتفقت عليه فرقهم المعروفة في هذه الأزمنة ، وعلى أنه حقيقة لا مجاز ، وعلى أن ( ابن الله ) بمعنى ( الله ) وبمعنى ( روح القدس ) ; لأن هؤلاء الثلاثة عندهم واحد حقيقة لا مجازا ، هذا تعليم الكنائس الذي قربته المجامع الرسمية ، بتأثير الفلسفة الرومية ، ولكن بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون ، ويخالفه خلق كثير منهم أعظمهم شأنا الموحدون والعقليون . والكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية لا تعتد بنصرانيتهم ولا بدينهم ، وهاك خلاصة تاريخية في أطوار هذه العقيدة ، وهي ما في دائرة المعارف العربية للبستاني ، قال : ثالوث Trinite - y
كلمة تطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معا في اللاهوت تعرف ( بالآب والابن والروح القدس ) وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر ، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس ، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحا وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام ، وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني ، وانبثاق الأقنوم الثالث ، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة وصفاتهم المميزة وألقابهم ، ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس ، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث ، قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت ، ولكن إذ كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة ، كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث ، بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد ، وقد [ ص: 289 ] اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم ( أحدهما ) الآيات التي ذكر فيها الآب والابن والروح القدس معا . ( والآخر ) التي ذكر فيها كل منهم على حدة ، والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر .
والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي ، وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين ، فإن ثيوفيلوس أسقف أنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة ثرياس باليونانية ، ثم كان ترتليانوس أول من استعمل كلمة ترينيتاس المرادفة لها ومعناها الثالوث ، وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم ، وعلى الخصوص في الشرق ، وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها أراتيكية ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض ، والسابليين الذين كانوا يعتقدون أن الآب والابن والروح القدس إنما هي صورة مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس ، والآريوسيين الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزليا كالآب بل هو مخلوق منه قبل العالم ؛ ولذلك هو دون الأب وخاضع له ، والمكدونيين الذين أنكروا كون الروح القدس أقنوما .
وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد ، ومجمع القسطنطينية سنة 381 وقد حكما بأن الابن والروح القدس مساويان للآب في وحدة اللاهوت ، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الآب ، وأن الروح القدس منبثق من الآب ، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضا . وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها ، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون حاسبة ذلك بدعة .
وعبادة ( ومن الابن أيضا ) لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانية والكاثوليكية ، وكتب اللوثيريين والكنائس المصلحة أبقت تعليم الكنيسة الكاثوليكية للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير ، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم حاسبين ذلك مضادا ، للكتاب المقدس والعقل ، وقد أطلق سويد نبرغ الثالوث على أقنوم المسيح معلما بثالوث ، ولكن لا ثالوث الأقانيم بل ثالوث الأقنوم ، وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الآب ، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن ، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس ، وانتشار مذهب العقليين في الكنائس اللوثيرية [ ص: 290 ] والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيين الجرمانيين .
وقد ذهب ( كنت ) إلى أن الآب والابن والروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت وهي القدرة والحكمة والمحبة ، أو على ثلاثة فواعل عليا: وهي الخلق والحفظ والضبط ، وقد حاول كل من هيجن وشلنغ أن يجعلا لتعليم الثالوث أساسا تخيليا ، وقد اقتدى بهما اللاهوتيون الجرمانيون المتأخرون ، وحاولوا المحاماة عن تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية ، وبعض اللاهوتيين الذي يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونين ، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة لعضد آراء السابليين على الخصوص اهـ .
وأقول : قد حدثت في هذا العصر مذاهب جديدة في النصرانية في أوربة وأمريكة قرب ببعضها كثيرون من إصلاح الإسلام لها ، سيفضي هذا إلى رجوع السواد الأعظم إليه بعد تنظيم الدعاية الصحيحة له وتعميمها ، ونحن نبين هذه الأطوار في المنار في أوقاتها ، ونعود الآن إلى الرد على قولهم المسيح ابن الله ; لأن هذا آخر موضع له في التفسير فنقول : كنا بينا في تفسير سورة المائدة وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ( 5 : 18 ) أن لقب " ابن الله " أطلق في كتب اليهود والنصارى على آدم ، كما تراه في نسب المسيح في آخر الفصل الثالث من إنجيل لوقا وهو : " ابن شيث بن آدم بن الله " وعلى يعقوب كما في الفصل الرابع من سفر الخروج ( 4 : 22 ) هكذا يقول الرب : إسرائيل ابني البكر وعلى أفرايم كما في سفر أرميا : ( 31 : 9 ) لأني صرت أبا وأفرايم هو بكري وعلى داود : من ( 89 : 26 ) هو يدعوني أبي أنت إلهي وصخرة خلاصي 270 أنا أيضا أجعله بكرا أعلى من كل ملوك الأرض ، وأنه أطلق أيضا على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين وسمى الله أبا لهم في مواضع كثيرة من كتب العهدين ، ويقابله إطلاق المسيح لقب " أولاد إبليس " على غير الصالحين ، وتسمية إبليس أباهم كما ترى في إنجيل يوحنا : ( 8 : 41 ) أنتم تعملون أعمال أبيكم ، قالوا : إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله 42 فقال لهم يسوع : لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني - إلى أن قال - أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ، وهنالك شواهد أخرى من استعمال كلمة ابن الله في الأفراد كسليمان عليه السلام ، وفي المؤمنين الصالحين ، وتسميتهم مولودين من الله تعالى ، وتسميته سبحانه أبا لهم .
وبينا أيضا أن هذا الاستعمال مجازي قطعا لا يحتمل المعنى الحقيقي بحال من الأحوال ، ولكن النصارى قد خرجوا عن قوانين العقل واللغات بجعل إطلاق لفظ " ابن الله " على المسيح وحده حقيقيا وعلى غيره مجازيا ، ووعدنا بتوضيح ذلك في تفسير هذه الآية : [ ص: 291 ] وقالت النصارى المسيح ابن الله على أننا كنا قد بيناه ووضحناه قبل ذلك في تفسير : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد ( 4 : 171 ) الآية من سورة النساء ، وكذا في مواضع من التفسير ( المنار ) ولعلنا ما وعدنا بإيضاحه إلا ونحن ذاهلون عن هذا وكثرة الكلام في المحال لا تزيده إلا غموضا وإشكالا ، فالنصارى قد تحكموا في تفسير ( ابن الله ) وتفسير ( الكلمة ) وتفسير ( روح القدس ) وتفسير اسم الجلالة ( الله ) بما ينافي العقل ونصوص العهد القديم والعهد الجديد ، فجعلوها متعارضة متناقضة . كل ذلك لإدخال عقيدة قدماء الوثنيين من الهنود والمصريين واليونان على دين أنبياء بني إسرائيل المبني على أساس التوحيد المطلق .
ولكننا نأتي بخلاصة أخرى في الموضوع نرجو أن تكون أوضح وأظهر مما سبق ، وأدل على نوع من أنواع إعجاز القرآن ، وهو تحديد الحقائق فيما اختلف فيه أهل الكتاب من أمر دينهم ، مما كان مجهولا لهم ولغيرهم من البشر ، كما وعد الله عز وجل في آيات منه كاختلافهم في المسيح نفسه وفي معنى اسم الله وكلمته ، وروحه أو روح القدس فنقول : قال جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس : ( الله ) اسم خالق جميع الكائنات والحاكم الأعظم على جميع العوالم ، والمعطي كل المواهب الحسنة ، والله " روح غير محدود ، أزلي غير متغير في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله ، وجودته وحقه " وهو يظهر لنا بطرق متنوعة وأحوال مختلفة في أعماله وتدبير عنايته ( رو 1 : 20 ) ولا سيما في الكتب المقدسة حيث يتجلى غاية التجلي في شخصيته وأعمال ابنه الوحيد المخلص يسوع المسيح ( ثم قال ) : ( طبيعة الله ) عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر ( مت 28 : 19 و 2 كو 13 : 14 ) الله الآب ، والله الابن ، والله الروح القدس ، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن ( مز 33 : 6 وكو 1 : 16 وعب 201 ) وإلى الابن الفدى ، وإلى الروح القدس التطهير ، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال الإلهية على السواء . أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم كما هي في العهد الجديد ، وقد أشير إلى هذا الأمر في تك ص1 حيث ذكر " الله " " وروح الله " ( قابل مز 33 : 6 ويو 1 : 1 و 3 ) والحكمة الإلهية المشخصة أم ص8 تقابل الكلمة " ( في يو ص 1 ) [ ص: 292 ] وربما تشير إلى الأقنوم الثاني ، وتطلق نعوت القدير على كل أقنوم من هذه الأقانيم الثلاثة على حدته . ( ثم قال ) : ( وحدة الله ) ظاهرة في العهد القديم أكثر منها في العهد الجديد ، والتثليث بين في العهد الجديد خفي في العهد القديم ، والداعي الأعظم لهذا الأمر إنما هو إظهار لخطأ الشرك بالله ومنع عبادة الأوثان التي كانت كثيرة الشيوع في الأزمنة الأولى قديما ففي تث 6 : 4 يدعى الله " ربا واحدا " وكان يدعى الإله الحي " تمييزا له عن آلهة الوثنيين الكاذبة ، والاعتقاد بأن الله واحد بين جدا في ديانة اليهود ( ثم قال ) : ( ابن الله ) - د 31 : 25 ابن الآلهة - لقب من ألقاب الفادي ولا يطلق على شخص آخر سواه إلا حيث يستفاد من القرينة أن المقصود بالملقب غير ابن الله الحقيقي ، وقد تسمت الملائكة بني الله ( أي 38 : 7 ) وأطلق هذا الاسم على آدم ( لو 3 : 38 ) إذ أنه هو الشخص الأول المخلوق من الباري رأسا . وقد تسمى المؤمنون أبناء الله ( رو 8 : 14 و 2 كو 6 : 18 ) وذلك لأنهم أعضاء في عائلة الله الروحية ، وأما إذا أريد بهذا اللقب المسيح فيذكر مع التفخيم والعظمة حتى إن القارئ يعرف القصد بكل سهولة .
وهذا اللقب يدل على طبيعة المسيح الإلهية ، كما أن القول بأنه " ابن الإنسان " يدل على طبيعته البشرية ، والمسيح هو ابن الله الأزلي والابن الوحيد ( قابل يو 1 : 18 و 5 : 19 - 26 و 9 : 35 : 38 ومت 11 : 27 و 16 : 16 و 21 : 37 وآيات أخرى غير هذه في الرسائل ) ومع أن المسيح يأمرنا بأن ندعو الله " أبانا " فهو لا يدعوه كذلك ، إنما يدعوه " أبي " وذلك إيماء لما هنالك من الألفة العظيمة ، والعلاقة الشديدة الكائنة بينهما مما تفوق علاقته كل علاقة بشرية . وإشارة إلى أننا نحن أولاده ليس على سبيل البنوة التي للمسيح ربنا ، بل من قبيل البنوة التي أنعم علينا بها بواسطة التبني والتجديد اهـ . بحروفه .
أقول : إن ما لخصه صاحب هذا القاموس من عقيدة النصارى ، هو أوضح ما تعرف به هذه العقيدة بالاختصار المتوخى في هذا القاموس ، على غموضه وضعفه في نفسه ، وما يذكرونه في عامة كتبهم قلما يفهم المراد منه لما في عباراتها من التعقيد اللفظي والمعنوي في موضوع غير معقول في نفسه . وفيما ذكره مؤاخذات كثيرة نذكر أهم ما يتعلق بموضوعنا هنا منها ، ولذلك نغض الطرف عما قاله في بيان المراد من اسم الجلالة ; لأننا نقلناه تمهيدا لما بعده فنقول : ( 1 ) ما ذكره فيما سماه " طبيعة الله " لا يدل عليه لفظ الاسم الكريم ، ولا شيء من كتب الأنبياء في العهد القديم ، ولا مما جاء عن متقدميهم في سفر التكوين . فثبت بهذا أن [ ص: 293 ] هذه الطبيعة المدعاة لم تكن معروفة عند أنبياء أهل الكتاب قبل النصرانية التقليدية ، وهي أصل الدين فيها ، ونتيجة هذا أن هذه العقيدة مبتدعة بعدهم وهم برآء منها .
( 2 ) إن ما أشار إليه من نص الإنجيل فيها لا يدل عليها ، وهو ما في إنجيل متى من قوله في آخره رواية عن المسيح عليه السلام ( 28 : 19 ) " وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس " فهذا اللفظ لا يدل على أن هذه الأسماء الثلاثة عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر ، وأن كلا منها عين الآخر ، وأنه يطلق عليه اسم ( الله ) الخالق لجميع الكائنات إلى آخر ما ذكره في معنى اسمه عز وجل ، ولا على أنها تتقاسم الأعمال الإلهية على السواء كما ادعاه فيما سماه طبيعة الله .
وكذلك ما أشار إليه من رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس وهو قوله في آخرها ( 13 : 14 ) نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعهم ) على أننا نعتقد أن بولس هو واضع أساس الديانة النصرانية الحاضرة ، وجاء فيها بما لم يؤثر عن المسيح عليه السلام ، ولا عن تلاميذه الحواريين ـ رضي الله عنهم ـ .
( 3 ) إن ما ذكر في كتب العهدين من استعمال ابن الله والروح القدس ينافي هذا المعنى ولا يتفق معه بوجه من الوجوه كما بيناه في تفسيرنا عند ذكرها في الآيات من سورتي آل عمران والنساء . وقد أشرنا إلى أهمها آنفا .
( 4 ) إن ما أشار إليه من عبارة المزمور ( 33 : 6 ) ليس فيه أدنى إشارة إلى هذه الطبيعة المبتدعة في هذا التثليث وهذا نصها ( بكلمة الرب صنعت السماوات ، وبنسمة فيه كل جنودها ) وهو يزعم هنا أن المراد ( بكلمة " الرب " المسيح ، تفسيرا لها برأي يوحنا في أول إنجيله ، وهذا المعنى للكلمة لم يكن معروفا لداود عليه السلام ولا لغيره من أنبياء اليهود ، بل هو معنى اخترعه الذي كتب إنجيل يوحنا ، والمرجح عند بعض المحققين أنه أحد تلاميذ بولس . وكان الدكتور جورج بوست كتب هذا الشاهد هنا قبل أن يكتب تفسير " الكلمة " في قاموسه ، وكأنه لما كتبه نسي ما كان كتبه هنا ، فإنه قال في الجزء الثاني منه ما نصه : يقصد بالكلمة السيد يسوع المسيح ، ولم ترد هذه الكلمة بهذا المعنى إلا في مؤلفات يوحنا اهـ . فكيف فسر بها عبارة المزمور إذا ؟
وكذلك ما نقله عن رسالتي بولس إلى كولوسي ، وإلى العبرانيين لا يدل على ما ذكره ، ولو دل عليها لكان أحد دلائلنا على أن هذه العقيدة قد وضع بولس أساسها ، إذ لم يعرفها أحد من أنبياء التوراة قبله عليهم السلام ولا المسيح .
( 5 ) قوله : إن غير واضحة في العهد القديم ، صوابه : غير موجودة فيه ألبتة لا بالنص ولا بالظاهر ولا بالفحوى والإشارة الواضحة . وعلى أن هذه العقيدة عند [ ص: 294 ] مسألة التثليث النصارى هي أساس الدين أو ركنه الأعظم ، فلو كانت عقيدة إلهية موحى بها إلى الأنبياء لصرحوا كلهم بها تصريحا لا يقبل التأويل كما صرحوا بالتوحيد الذي اعترف هو وغيره بأنه ظاهر ( وبين جدا ) في العهد القديم ، وهاتان العقيدتان على أتم التناقض . وما ذكره من الإشارة إليها في أول سفر التكوين بذكر الله ولفظ ( روح الله ) غير مسلم ; فإنه لم يفهم ذلك منهما أحد من اليهود ، ولا غيرهم قبل ابتداع هذه العقيدة ، ولا يجوز بل لا يعقل أن يكون أساس العقيدة في كتاب الله مبهما لا يفهمه المخاطبون منه ، كما علمت آنفا من استشهاده بالمزمار ( 33 : 6 ) وهذان اللفظان موجودان في القرآن المجيد الذي يصرح بكفر القائلين بالتثليث .
( 6 ) ما ذكره في مسألة ( وحدة الله ) من سبب التصريح بتوحيد الله تعالى بأقوى النصوص في العهد القديم ، وهو سد ذريعة الوثنية التي كانت كثيرة الشيوع في الأزمنة الأولى هو حجة عليه ، فإن تلك الوثنية التي أراد الله تعالى سد ذرائعها بنصوص التوحيد القطعية لموسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام ، كان من أركانها عقيدة التثليث الهندية المصرية اليونانية ، فما وقع فيه النصارى من الوثنية هو الذي أريد وقاية أتباع الأنبياء منه بتلك النصوص الإلهية في كتبهم ، ولا سيما الوصية الأولى من وصايا التوراة ، وإنما أوقعهم فيه هذه الألفاظ المجملة في رسائل بولس وأناجيل تلاميذه ، وعدم تأويلهم لها بها يوافق توحيد جميع الأنبياء ونصوص التنزيه فيها وفي الإنجيل أيضا .
( 7 ) إن استشهاده على " كلمة ابن الله " بما جاء في الفصل 3 من سفر دانيال غريب جدا جدا ، فإن عادته في قاموسه أن يذكر بجانب كل كلمة تفسيرا لها وشاهدا عليها من كلام الله أو كلام الأنبياء ، والعبارة التي ذكرها هنا هي كلمة الملك بابل نبوخذ نصر الوثني قالها في أحد الأفراد الذين ألقاهم في أتون النار ولم يحترقوا ، وهي " ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة " فلينظر المسلمون وغيرهم من العقلاء بم يؤيد هؤلاء النصارى تسميتهم المسيح ابن الله ؟ ! وبم يثبتون أن لله ابنا حقيقيا ؟ إنهم يحاولون إثبات هذا أو يؤيدونه بكلام الوثنيين في عقائدهم ، ثم ينكرون أنهم وثنيون .
( 8 ) إنه حاول أن يفرق بين ما أمر المسيح به المؤمنين من خطابهم لله تعالى في الصلوات بقوله في أول الصلاة الربانية " أبانا الذي في السماوات " إلخ وما في معناه كقوله " أبي وأبيكم " وبين روايتهم عنه في بعض المواضع من قوله " أبي " فهو يزعم تقليدا لرؤساء ملته أن إضافة الأب إلى ضمير المتكلم منه عليه السلام ، وإضافته إلى ضمير الجميع فيما أمرهم به من قول " أبانا " دليل على أن أبوته تعالى له حقيقية وأبوته للمؤمنين على سبيل التبني .
وهذا من أغرب ما يؤثر عنهم من التحكم والابتداع المخالف للغة وللعقل وللنقل المأثور [ ص: 295 ] عن الأنبياء ، فأبوة الله الحقيقية لبعض البشر أو غيرهم من الخلق لا تعقل ، وأبوة التبني تزوير يجل الله عنه كما يتنزه عن مجانسة الخلق بالأبوة الحقيقية ، والأظهر في هذه الأبوة في كل موضع إن صح النقل أنها مجاز عن الرحمة والرأفة والتكريم ، ولا ننكر أن حظ المسيح عليه السلام منها جدير بأن يكون أعلى من حظ يعقوب وأفرايم وداود وسليمان ممن أطلق عليهم هذا اللقب في أسفار العهد القديم ، ومن الكفر الصريح ، والطعن في تنزيه الله عز وجل عندنا وعند كل عاقل مستقل الفكر أن يقال : إن له سبحانه ابنا حقيقيا ، وأبناء بالتبني ، أي أدعياء ، وهو عز وجل يقول في أبناء التبني الذي كان معهودا عند العرب وأبطله بالإسلام : وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ( 33 : 4 و 5 ) .
وأما الفرق بين ضمير الجمع وضمير المفرد فيما نقلوه فسببه يعرفه العوام كالخواص ، وهو أن الجمع للجماعة والمفرد للمفرد ، ولو نقلوه عن المسيح عليه السلام أنه كان يقول في صلاته : " أبي الذي في السماوات " لكان لهم شبهة في هذه التفرقة . على أنه معارض بقول الرب في داود ( مز 89 : 26 هو يدعوني أنت أبي ) فإذا كانت إضافة لفظ أب إلى ضمير المفرد المتكلم تقتضي أن يكون المضاف إليه ابنا حقيقيا لله تعالى ، فقد كان هذا الفخر لداود قبل المسيح ، وأن لإضافة ابن إلى ضمير الرب المفرد من الاختصاص ما يساوي بل يفوق إضافة لفظ الأب إلى ضمير العبد . وقد تقدم ما في سفر الخروج من قول الرب ( 4 : 22 ابني بكري إسرائيل ) ومثله قوله في سفر أرميا ( 31 : 9 إني صرت أبا لإسرائيل وإفرايم هو بكري ) ووصف الأب الابن بكونه بكرا له يقرب به من الحقيقة أو الاختصاص ما لا يقرب مثله بإضافة الابن اسم أبيه إلى ضمير نفسه ، إذ من المعلوم أن المتبنى يخاطب متبنيه ويخبر عنه بقوله " أبي " كالابن من الصلب ، ولكن الرجل لا يصف من تبناه ولا يخبر عنه بقوله ابني البكر .
( 9 ) قوله : إن المؤمنين أعضاء في عائلة الله الروحية - ما أملاه عليه إلا أن عقله لا يفهم من لفظ " ابن الله وأبناء الله " إلا المعنى المجازي . ومقتضاه أن كل ما يعقل من نصوص العهد الجديد في إطلاق اللفظ علىالمسيح بكثرة أو نوع امتياز ، إنما يراد به أنه عليه السلام كان أفضل من غيره من أعضاء هذه العائلة الروحية المدعاة ، والمسلمون لا ينكرون هذا الامتياز فإنهم يفضلونه - عليه السلام - على أجداده إسرائيل وداود وغيرهما ممن أطلق عليه لقب ( ابن الله ) في العهد القديم بل يفضلونه على جميع الأنبياء ما عدا إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
[ ص: 296 ] ( 10 ) إننا على بحثنا هذا في كلامه لإقامة الحجة على النصارى كلهم ننكر لفظ " عائلة الله " وأمثاله مما يخل بتنزيه الله رب العالمين عما تقتضيه من المجانسة ، فهو عز وجل ليس له جنس مادي ولا روحي ليس كمثله شيء ( 42 : 11 ) و سبحان ربك رب العزة عما يصفون ( 37 : 180 ) و قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ( 112 : 1 - 4 ) .
وأما معنى " روح القدس " وبطلان ما زعموه من كونه هو الله فقد تقدم بيانه مفصلا في تفسير آية : وأيدناه بروح القدس ( 2 : 87 ) وآية : وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ( 4 : 171 ) المشار إليها فيما تقدم قريبا .
( 11 ) إنه من أجل عداوته للتوحيد ، ولتنزيه الخالق عز وجل عن الجنس والولد والشريك ، لم يذكر في صفاته عز وجل ما ورد في العهدين القديم والجديد ، من تنزهه تعالى عن الند والنظير والشبيه ، الذي يجب بحكم العقل أن تئول لأجله أو تحمل عليه وتقيد به جميع النصوص الدالة على التشبيه ، كما جعل المسلمون قوله عز وجل : ليس كمثله شيء وقوله : سبحان ربك رب العزة عما يصفون أصل عقيدة التنزيه وقيدوا بها معاني الآيات الموهمة للتشبيه . وقد جاء في سفر الاستثناء من أسفار التوراة ( 4 : 12 ) فكلمكم الرب من جوف النار فسمعتم صوت كلامه ، ولم تروا الشبه ألبتة ( 15 ) فاحفظوا أنفسكم بحرص فإنكم لم تروا شبها يوم كلمكم الرب في حوريب من جوف النار ) والعقلاء من اليهود يردون جميع العبارات التي ظاهرها التشبيه والأعضاء للرب تعالى إلى هذا النص النافي للتشبيه .
وقد جاء في إنجيل يوحنا الذي تفرد بأقوى الشبهات على التثليث ما يدل على التنزيه قال ( 1 : 18 الله لم يره أحد قط . الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي خبر ومثله في الرسالة الأولى ليوحنا ( 4 : 12 الله لم ينظره أحد ) قط بل قال مثل ذلك أستاذه بولس في رسالته الأولى إلى نيموتادس ، فإنه وصاه بحفظ الوصية إلى ظهور المسيح ، وقال عن هذا الظهور : ( 15 الذي سيبينه في أوقاته المبارك الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب 16 الذي وحده له عدم الموت ساكنا في نور لا يدنى منه ، الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه أحد الذي له الكرامة والقدرة الأبدية ) .
فتبين بما تقدم أن هذه عقيدة التثليث ، وألوهية المسيح المخالفة لحكم العقل ، ليس لها أصل في كتب الأنبياء عليهم السلام لا قطعي ولا ظني ، وأن شبهاتها في العهد الجديد ضعيفة ليست نصا ولا ظاهرة فيها . على أن كتب العهد الجديد لا يوثق بها ، فإن النصارى قد أضاعوا أكثر ما كتب من إنجيل المسيح في عصره ثم رفضت [ ص: 297 ] مجامعهم المسكونية الرسمية بعد دخول التعاليم الوثنية فيهم من قبل الرومانيين أكثر ما وجد عندهم من الأناجيل التي كانت تعد بالعشرات ، وقيل بالمئات ، واعتمدت أربعا منها ليس فيها إلا قليلا مما رواه من أقوال المسيح وأفعاله ، كما قال يوحنا في آخر إنجيله : " وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة آمين " اهـ . ومن المعلوم بالبداهة أنه كان يقول عندما كان يفعل ، فلم تكتب أقواله ولا أفعاله الكثيرة .
وقد تكرر في كتب العهد الجديد ومنها الأناجيل الأربعة ذكر إنجيل المسيح ، وفي بعضها يسمى " إنجيل الله " ومن المعلوم بالبداهة أنه لا يراد بهذا الإنجيل أحد هذه التواريخ الأربعة التي تحدث عنه ، وفي هذه الكتب أيضا أنه كان يوجد أناجيل كاذبة وأناجيل محرفة ورسل كذبة ، وقد فصلنا القول في مسألة إنجيل المسيح وهذه الأناجيل ، وأثبتنا عدم الثقة بها ، وأن مجموعها يثبت ما نطق به كتاب الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو أن النصارى كاليهود نسوا حظا عظيما مما ذكروا به وأنهم أوتوا نصيبا منه ، وأنهم انتحلوا عقائد وثني الهند وغيرهم من القدماء في الثالوث [ فراجعه في ص239 - 25 ج 6 ط الهيئة ] .