فصل استطرادي
في هيمنة القرآن على التوراة والإنجيل وشهادته لهما وعليهما
( إن قيل ) : إن ما ذكرت يبطل الثقة بالكتب التي بها سمى الله اليهود والنصارى أهل الكتاب حتى التوراة والإنجيل ، وقد شهد القرآن المجيد لليهود بأن عندهم التوراة فيها حكم الله ، وأمرهم بأن يحكموا بما أنزل الله فيها على سبيل الاحتجاج عليهم ، كما أمر أهل الإنجيل بمثل ذلك ، وقال في نبيه صلى الله عليه وسلم ووصف الناجين منهم بقوله: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ( 7 : 157 ) وهم يحتجون على المسلمين بهذه الآيات ، ومن دعاة النصارى ( المبشرين ) من ألف كتابا في ذلك سماه ( شهادة القرآن لكتب أنبياء الرحمن ) فبطلان الثقة بما عندهم من التوراة والإنجيل يستلزم بطلان الثقة بالقرآن ، ويكون حجة لملاحدة التعطيل على بطلان جميع الأديان ، فما جوابك عن هذا ؟ .
( قلت ) . قد سبق الجواب عن هذه الشبهة في هذا التفسير وفي ( المنار ) ونعيده الآن بأسلوب آخر لزيادة البيان ، فأما أهل الكتاب فحجتهم علينا بما قالوا إلزامية [ ص: 300 ] لا حقيقية ; لأنهم لا يؤمنون بالقرآن فلا تنفعهم فيما ذكر من الطعن في ثبوت كتبهم ، وهم يكتفون من إغواء المسلمين بتشكيكهم في دينهم ، ظنا منهم أنهم إذا كفروا بدينهم يسهل إدخالهم في النصرانية ولو نفاقا كالكثير من أهلها ; لأنها أدنى إلى استباحة جميع شهوات الدنيا : ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ( 4 : 89 ) ولكن هذا الإلزام لا يتم لهم علينا إلا إذا أخذت شهادة القرآن على هذه الكتب مع شهادته لها ، وقبول حكمه فيها ; لأنه نص على أنه مهيمن رقيب له السيطرة عليها ، إذ قال بعد ذكر التوراة والإنجيل من سورة المائدة : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ( 5 : 48 ) ومما حكم به على اليهود والنصارى جميعا أنهم نسوا حظا عظيما مما ذكروا به فيما أنزل الله عليهم ، وأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب لا الكتاب المنزل كله ، وأنهم مع هذا حرفوه وبدلوه ، وقد بينا هذا كله في مواضعه من تفسير الآيات الناطقة به ، وفي الرد على المبشرين ومواضع أخرى من المنار .
وأما الملاحدة الذين استدلوا بنصوص التواريخ مع دلائل العقل على فقد تلك الكتب ، وعدم الثقة بشيء من الموجود منها ، فجوابنا لهم أن حكم الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قريب من حكمهم عليها من ناحية فقد الثقة بها ، ولكن في جملتها لا في كل جملة منها . فحكمه أدق وأصح في نظر العقل ، مع صرف النظر عن كونه لا يعقل أن يكون إلا بوحي الله عز وجل . ذلك بأن قوله في اليهود : يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ( 5 : 13 ) مع قوله : أوتوا نصيبا من الكتاب هو المعقول ، فإن العقل لا يتصور أن تنسى أمة كبيرة جميع شريعتها بفقد نسخة الكتاب المدونة فيه ، وقد عملت به في عدة قرون . وكذا قوله إنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، وذلك ثابت بالشواهد الكثيرة من زيادة ونقصان وتغيير وتبديل كما بينه الشيخ رحمه الله في كتابه ( إظهار الحق ) وغيره . واليهود يعترفون بأن عزيرا ( عزرا ) كتب ما كتب من الشريعة بعد فقدها باللغة الكلدانية لا بلغة موسى عليه السلام ، وكان يضع خطوطا على ما يشك فيه ، فالمعقول أنه كتب ما ذكره [ ص: 301 ] وتذكره هو ومن معه دون ما نسوه ، وكان منه الصحيح قطعا ، ومنه المشكوك فيه ، ومنه الغلط ، ومن ثم وجد التحريف ، ولا محل هنا للإتيان بالشواهد على هذا .
وبناء على هذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ( 2 : 136 ) الآية . رواه لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم و في صحيحه ، وسببه أن البخاري عمر ـ رضي الله عنه ـ كان قد نسخ شيئا من التوراة بالعربية ، وجاء به إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه أحمد من حديث والبزار جابر وقال : فعلم من ذلك أن فيما عندهم ما هو حق وهو ما أوتوه ، وما هو باطل وهو ما حرفوه ، ودع ما فقد وهو ما نسوه . لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، وأنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل ، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي
ومن ثم كان التحقيق عندنا معشر المسلمين أن نؤمن بالتوراة والإنجيل بالإجمال ، وبأن ما ورد النص عندنا به بأنه من حكم الله تعالى كحكم رجم الزاني الذي ورد فيه وعندهم التوراة فيها حكم الله ( 5 : 43 ) نجزم بأنه مما أوحاه الله إلى موسى عليه السلام ، وما دل النص على كذبهم فيه ككون هارون عليه السلام هو الذي صنع لهم العجل الذهبي الذي عبدوه ، وكون سليمان قد ارتد وعبد الأوثان ، وكون لوط زنا بابنته - فإننا نجزم بكذبه ، وأما ما احتمل الصدق والكذب فإننا لا نصدقهم ولا نكذبهم فيه . واليهود والنصارى في هذا سواء عندنا ، وتقدم بيان حالهم في نسيان حظ عظيم من إنجيل عيسى عليه السلام .
ويمكننا أن نستدل بهذا التحقيق ، وبتحقيق مسألة كلمة الله وروح الله ( روح القدس ) التي ضل فيها قدماء الوثنيين وتبعهم النصارى ، الذي جاءنا على لسان النبي الأمي الذي لم يقرأ شيئا من كتب أهل الكتاب ، ولا من التواريخ العامة ولا الخاصة على أنه وحي من الله تعالى عالم الغيب والشهادة ، فإنه هو التحقيق المعقول الذي ينطبق على نقول التواريخ وحكم العقل ، ولم يسبق إلى بيانه أحد من أهل الكتاب ، ولا من غيرهم ، كما أنه لا يسع عاقلا منصفا رده . ولا يعقل أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ عرفه برأيه ; لأن الرأي في مثل هذا يبنى على معلومات كثيرة لم يكن له ، ولا لقومه علم بشيء منها ، وقد قال الله تعالى له بعد ذكر قصة نوح من سورة هود المكية : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ( 11 : 49 ) ولم يعترض عليه أحد من أعدائه [ ص: 302 ] من قومه المشركين فيقول : بل نعلمها وهي من القصص المشهورة عن أهل الكتاب ، وأين كانوا من علم أهل الكتاب ؟ ولا يعقل أيضا أن يكون أخذ حكمه على التوراة والإنجيل عن أحد من اليهود أو النصارى ، لا لأنه لم يكن يوجد أحد منهم في بلده فقط ، بل لم يكونوا يعلمون ذلك ; لأنهم لو علموه لما قالوه ; لأنه طعن فيهم وفي دينهم - فلم يبق بعد ظهور صدقه إلا الجزم بكونه وحيا من عالم الغيب ، ووجها من وجوه إعجاز القرآن السافرة النيرة .