ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون
[ ص: 412 ] هذا شروع في بيان حال أناس من أولئك المنافقين بأقوال قالوها فيما بينهم جهرا وأمور أكنوها في أنفسهم سرا ، وأقوال سيقولونها ، وأقسام سيقسمونها ، وأعذار سيعتذرونها غير ما سبق منهم ، وشئون عامة فيهم - أكثرها من أنباء الغيب - مع ما يتعلق بذلك ويناسبه من الحكم والأحكام ، والعقائد والآداب ، قال عز وجل : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني هذا بيان لأول استئذان معين وقع من أولئك المنافقين في التخلف ، واتفقت الروايات على أن جد بن قيس من شيوخهم قال هذا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أول عهد الدعوة للغزوة ، وأثناء التجهيز للسفر ، وروي أن غيره منهم قال لما دعاهم إلى تبوك : إنه ليفتنكم بالنساء . أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ـ رضي الله عنه ـ قال : ابن عباس تبوك قال لجد بن قيس : " ما تقول في مجاهدة بني الأصفر " ؟ قال : إني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن أفتن ، فأذن لي ولا تفتني . وروى لما أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخرج إلى غزوة ابن حاتم وابن مردويه عن ـ رضي الله عنه ـ قال : جابر بن عبد الله سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول لجد بن قيس : " يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر " ؟ قال جد : أتأذن لي يا رسول الله فإني رجل أحب النساء ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو معرض عنه : " قد أذنت لك " فأنزل الله الآية . وقد عبر عن قوله بالفعل المضارع لاستحضار تلك الحال لغرابتها ، فإن مثله في نفاقه لا يخشى على نفسه إثم الافتتان بالنساء إذ لا يجد من دينه مانعا من التمتع بهن وهو يحبهن ، بل شأن ذلك أن يكون مرغبا له في هذه الغزوة . وقد رد الله شبهته وشبهة من وافقه عليها ورددوا معناها بقوله : ألا في الفتنة سقطوا بدأ الرد على قائلي هذا القول بأداة الافتتاح ( ألا ) المفيدة للتنبيه والتأمل فيما بعدها ؛ ولتحقيق مضمونه إن كان خبرا لتوجيه السمع والقلب له ، وعبر عن افتتانهم بالسقوط في الفتنة للمبالغة ، وقدم الظرف : في الفتنة على عامله : ( سقطوا ) للدلالة على الحصر ، يقول : ألا فليعلموا أنهم سقطوا وتردوا بهذا القول في هاوية الفتنة بأوسع معناها ، لا في شيء آخر من شبهاتها أو مشابهاتها ، من حيث يزعمون اتقاء التعرض لشبهة نوع من أنواعها ، وهو الإثم بالنظر إلى جمال نساء الروم ، واشتغال القلب بجمالهن ، فتردوا في شر مما اعتذروا به .
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين هذا وعيد لهم على الفتنة التي تردوا فيها ، وضع فيه المظهر موضع ضميرهم للنص على أن عقابهم بإحاطة جهنم بهم عقاب على الكفر الذي حملهم على ذلك الاعتذار ، الذي هو ذنب في نفسه كان أقصى عقابه مس النار دون إحاطتها لو لم يكن سببه الكفر بتكذيب الرسول فيما جاء به من حكم الجهاد وثوابه والعقاب على تركه ، أو الشك [ ص: 413 ] في ذلك كما قال آنفا : وارتابت قلوبهم ( 45 ) وقلما يكون الكفر إلا شكا أو ظنا ، فإن رأيت صاحبه موقنا فيه فاعلم أن يقينه سكون النفس إليه عن جهل لا عن علم ، والمراد : أن جهنم ستكون محيطة بهم جامعة لهم يوم القيامة ، وإنما عبر عن ذلك باسم الفاعل الدال على الحال ؛ لإفادة تحقق ذلك حتى كأنه واقع مشاهد ، ويحتمل أن يقال : إنها محيطة بهم الآن ؛ لأن أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها . قاله . وإنما تحيط النار بمن أحاطت به خطاياه حتى لا رجاء في توبته : الزمخشري بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 2 : 81 ) .
إن تصبك حسنة تسؤهم ، المتبادر أن هذا إخبار عن شأنهم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، والحسنة كل ما يحسن وقعه ويسر من غنيمة ونصرة ونعمة ، أي أنه يسوءهم كل ما يسرك ، ما ساءهم النصر في بدر وغير بدر من الغزوات وإن تصبك مصيبة أي : نكبة وشدة كالذي وقع في غزوة أحد يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل أي : قد أخذنا أمرنا بالحزم والحذر الذي هو دأبنا من قبل وقوعها إذ تخلفنا عن القتال ، ولم نلق بأيدينا إلى الهلاك : ويتولوا وهم فرحون أي : وينصرفوا عن الموضع الذي يقولون فيه هذا القول عند بلوغهم خبر المصيبة إلى أهليهم ، أو يعرضوا عنك بجانبهم وهم فرحون فرح البطر والشماتة . وتقدم في معنى الآية قوله : إن تمسسكم حسنة تسؤهم ( 3 : 120 ) الآية وهي في سياق غزوة أحد .
وقد ورد في التفسير المأثور ما يدل على أن الآية خبر عن مستقبل الأمر في غزوة تبوك . روى عن ابن جرير ـ رضي الله عنه ـ قال : إن تصبك في سفرك هذا لغزوة ابن عباس تبوك حسنة تسؤهم ، قال : الجد وأصحابه . وروى عن ابن أبي حاتم ـ رضي الله عنه ـ قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا في جابر بن عبد الله المدينة يخبرون عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبار السوء ، يقولون : إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب خبرهم وعافية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه فساءهم ذلك ، فأنزل الله تعالى : إن تصبك حسنة تسؤهم ، الآية . وأخرج عن ابن أبي حاتم في الآية قال : إن أظفرك الله وردك سالما ساءهم ذلك ، وإن تصبك مصيبة يقولوا : قد أخذنا أمرنا في القعود قبل أن تصيبهم ، والأول أبلغ وهو يشمل هذا وغيره . السدي
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا أي : قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين الذين تفرحهم مصيبتك ، وتسوءهم نعمتك وغنيمتك ، لن يصيبنا إلا ما كتبه الله وأوجبه لنا بوعده في كتابه ، وتقديره لنظام سننه في خلقه ، من نصر وغنيمة وتمحيص وشهادة ، وضمان لحسن العاقبة هو مولانا أي : هو وحده مولانا يتولانا بالتوفيق والنصر ، ونتولاه باللجأ [ ص: 414 ] إليه ، والتوكل عليه ، فلا نيأس عند شدة ، ولا نبطر عند نعمة ، وقد قال لنا في وعده : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ( 8 : 39 و 40 ) وقال في بيان سنته في خلقه : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ( 47 : 10 و 11 ) وقال في سنته في العواقب : إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ( 7 : 128 ) .
وعلى الله فليتوكل المؤمنون أمر مبني على ما قبله ، أي : وإذا كان الله هو مولاهم فحق عليهم أن يتوكلوا عليه وحده دون غيره ، مع القيام بما أوجبه عليهم في شرعه ، والاهتداء بسننه في خلقه ، ومنها ما أخبرهم به من أسباب النصر المادية والمعنوية التي فصلها في سورة الأنفال وغيرها ، كإعداد ما تستطيع الأمة من قوة ، واتقاء التنازع الذي يولد الفشل ، ويفرق الكلمة ، وذلك بأن يكلوا إليه توفيقهم لما يتوقف عليه النجاح ، وتسهيل أسبابه التي لم يصل إليها كسبهم ، وما أجهل من يظن أن التوكل وكتابة المقادير ، يقتضيان ترك العمل والتدبير ، وقد بسطنا القول في الأمرين في مواضع من هذا التفسير ، ويقابل التوكل عليه تعالى بالمعنى الذي ذكرناه وما أيده به من كتاب الله ، اتكال الماديين على حولهم وقوتهم وحدها ، حتى إذا ما أدركهم العجز وخانتهم القوة أمام قوة تفوقها ، خانهم الصبر وأدركهم اليأس ؛ إذ ليس لهم ما للمؤمنين من التوكل على ذي القوة التي لا تعلوها قوة - وشر منه اتكال الخرافيين على الأوهام ، وتعلق آمالهم بالأماني والأحلام ، حتى إذا ما انكشفت أوهامهم ، وكذبت أحلامهم ، وخابت آمالهم ، نكسوا رؤوسهم ، ونكصوا على أعقابهم ، واستكانوا لأعدائهم ، وكفروا بوعد ربهم بنصر المؤمنين ، ووعد الله أصدق من دعواهم الإيمان ، وإنما وعد بالنصر أولياءه لا أولياء الشيطان .
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين التربص : التمهل في انتظار ما يرجى أو يتمنى وقوعه . ومضمون هذا بدل مما قبله أو بيان له ، والحسنيان مثنى الحسنى ، وهي اسم التفضيل للمؤنث ، والاستفهام للتقرير والتحقيق . والجملة تفيد الحصر ، أي : قل لهم أيضا : هل تربصون بنا أيها الجاهلون إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما حسنى العواقب وفضلاها ، وهما النصرة والشهادة ، النصرة المضمونة للجماعة ، والشهادة المكتوبة لبعض الأفراد ؟ أي : لا شيء ينتظر لنا غير هاتين العاقبتين مما كتب لنا ربنا ، وأنتم تجهلون [ ص: 415 ] ما تتربصون بنا : ونحن نتربص بكم في مقابلة ذلك إحدى السوءيين أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا الأولى : أن يهلككم بقارعة سماوية لا كسب لنا فيها ، كما أهلك من قبلكم من الكافرين الذين كذبوا الرسل ، والثانية : أن يأذن لنا بقتلكم ، أن أغراكم الشيطان بإظهار كفركم ، بهذا الاستدراج في الاستمرار على إجرامكم ، كما قال في سياق غزوة الأحزاب : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ( 33 : 60 ) الآيات . وحكم الشرع أنهم لا يقتلون ما داموا يظهرون الإسلام ، بإقامة الشعائر ، وأداء الأركان ، ولا سيما الصلاة والزكاة ، ولم تذكر هاتان العاقبتان لهم بصيغة الحصر كعاقبتي المؤمنين ؛ لجواز أن يتوبوا عن نفاقهم ، ويصح إيمانهم ، وقد تاب بعضهم ، واعترفوا بما كانوا عليه بعد ظهور أمرهم ، كالذين أخبرهم النبي بما ائتمروا به من اغتياله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن المعقول أن يكون أكثر الباقين قد تابوا بعد أن أنجز الله لرسوله جميع ما وعده به ، ووقع ما كانوا يحذرونه من تنزيل سورة تنبئهم بما في قلوبهم ، ومنها فضيحته تعالى لزعيمهم الذي مات على كفره ، ولو ذكر ذلك في التنزيل بصيغة الحصر لكان خبرا بخلاف ما سيقع ، وهو هلاكهم بكفرهم بدون الشرط الذي بيناه فتربصوا إنا معكم متربصون أي : وإذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا إنا معكم متربصون ما ذكر من عاقبتنا وعاقبتكم ، إن أصررتم على كفركم وظهر أمركم ، مما نحن فيه على بينة من ربنا ، ولا بينة لكم ، ويالله ما أبلغ الإيجاز في حذف مفعولي تربصهما ، وفي التعبير عن تربص المؤمنين بالصفة الدالة على تمكن الثقة من متعلقه ! .