( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) .
هذه الآيات الأربع ، وتأثير نزول القرآن فيهم وفي المؤمنين ، ومن قام الدليل على اليأس من إيمانهم ، وإخبار الله بموتهم على كفرهم . آخر ما نزل في المنافقين
[ ص: 67 ] ( وإذا ما أنزلت سورة ) ، كلمة ( ( ما ) ) بعد ( ( إذا ) ) تفيد التأكيد لمضمون شرطها ، يعني وإذا تحقق إنزال الله تعالى على رسوله سورة من القرآن ( فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) أي فمن المنافقين من يتساءل مع إخوانه للاختبار أو مع من يلقاه من المسلمين كافة للتشكيك ، قائلا : أيكم زادته هذه السورة إيمانا ؟ أي يقينا بحقية القرآن والإسلام ، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن في كل سورة من القرآن آيات على صدقه - صلى الله عليه وسلم - بما فيها من ضروب الإعجاز العامة الدالة على أنها من عند الله تعالى ، وكون محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع أن يأتي بمثلها من تلقاء نفسه ، فالسؤال عن الإيمان بأصل الإسلام وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه عن الله عز وجل وهو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وخضوع الوجدان الذي يستلزم العمل ، لا مجرد اعتقاد صدق الخبر ، الذي يقابله اعتقاد كذبه ، فإن أولئك المصدقون الجاحدون الذين قال الله لرسوله فيهم : ( أشد الناس كفرا فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) ( 6 : 33 ) ومثله قوله : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) ( 27 : 14 ) ولا شك أن الإيمان بمعناه الذي قلناه يزيد بنزول القرآن في عهد الرسول وناهيك بمن يحضر نزوله عليه ويسمعه منه ، وكذا يزيد بتلاوته وبسماعه من غيره أيضا ثباتا في قلب المؤمن وقوة إذعان ، وصدق وجدان ، ورغبة في العمل والقرب من الله . قال الله تعالى في جواب هذا السؤال وهو العليم الخبير : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا ) فأثبت تعالى للمؤمن ، وهو يشمل الزيادة في حقيقته وصفته من اليقين والإذعان واطمئنان القلب . وفي متعلقه وهو ما في السورة من مسائل العلم ، وفي أثره من العمل والتقرب إلى الرب . وإنما يتساءل المنافقون عن الأول وهو الذي يفقدونه ، وإنما غيره تابع له . ( زيادة الإيمان بزيادة نزول القرآن وهم يستبشرون ) أي والحال أنهم يسرون بنزولها وتستدعي زيادة الإيمان في قلوبهم البشرى والارتياح بما يرجون من خير هذه الزيادة بتزكية أنفسهم ، وأثر ذلك في أعمالهم في الدنيا والآخرة .
( وأما الذين في قلوبهم مرض ) أي شك وارتياب . يدعو إلى النفاق بإسرار الكفر وإظهار الإسلام ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) أي كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق الذي هو ( أقذر الرجس النفسي وشر أنواعه وماتوا وهم كافرون ) أي واستحوذ ذلك عليهم ورسخ فيهم . فكان مقتضى سنة الله تعالى في تأثير الأعمال في صفات النفس أن من مات منهم مات على كفره . وسيموت من بقي منهم وهم متلبسون بالكفر . وهاك الدليل على ذلك .
( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) الاستفهام لتقرير مضمون الحكم عليهم والحجة عليه . وهو داخل على فعل محذوف للعلم به من المقام . والمعنى : أيجهلون [ ص: 68 ] هذا ويغفلون عن حالهم فيما يعرض لهم عاما بعد عام من تكرار الفتون والاختبار الذي يظهر به استعداد الأنفس للإيمان أو الكفر ، والتمييز بين الحق والباطل ، كالآيات الدالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أخبر به من نصر الله له ولمن اتبعه ، وخذلان أعدائه من الكفار والمنافقين ووقوع ما أنذرهم ، ومن إنباء الله رسوله بما في قلوبهم ، وفضيحتهم بما يسرون من أعمالهم ، كما فصل في هذه السورة وذكر بعضه في غيرها - وقرأ حمزة ويعقوب ( ( أولا ترون ) ) على أن الخطاب للمؤمنين الذين قد يروعهم الخبر المؤكد وقوعه بموتهم على كفرهم ، كأنه يقول : أتعجبون من الحكم عليهم بهذه العاقبة السوأى ولا ترون الدلائل الدالة عليها من فتنتهم وابتلائهم المرة بعد المرة سنة بعد سنة ، بما من شأنه أن يذهب بشكهم ويشفي مرض قلوبهم ، من آيات الله فيهم وفي غيرهم : ( ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) أي ثم تمر الأعوام على ذلك ولا يتوبون من نفاقهم ، ولا يتعظون بما حل بهم مما أنذرهم الله تعالى به ، وهل بعد هذا من برهان على انطفاء نور الفطرة والاستعداد للإيمان أقوى من هذا ؟ إن كان وراءه برهان أقوى منه فهو أنهم يفرون من العلاج الذي من شأنه أن يشفيهم من مرض قلوبهم وهو ما أكد به ما قبله بقوله :
( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض ) هذا ، وما يكون من فعلهم وقولهم عند تلاوته لها ، وما قبلها في بيان حالهم إذا بلغهم نزول سورة من حيث البحث عن تأثيرها ، وقد يقال : إن الأولى تشمل من سمع منه ومن بلغ عنه ، والعبرة بموضوعها لا بطريقة العلم بها ، وإن هذه أدل على رسوخهم في الكفر وعدم الطمع في رجوعهم عنه ، بإثباتها أنهم يكرهون سماع القرآن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أشد تأثيرا من سماعه من غيره في الهداية ، ولذلك كان المشركون يمنعونه من تلاوته على الناس لئلا يهتدوا بسماعه منه ، فإن لم يتمكنوا من إسكاته أعرضوا عن سماعه ولغوا فيه . ومنعوا صاحبه الصديق أيضا من الصلاة في المسجد الحرام ثم من مسجده الخاص لما رأوا النساء والصبيان يجتمعون لسماع القرآن منه ويتأثرون بخشوعه فيه . يقول : وإذا أنزلت سورة وهم في المجلس تسارقوا النظر ، وتغامزوا بالعيون ، على حين تخشع أبصار المؤمنين ، وتنحني رءوسهم ، وتجب قلوبهم ، وترامقوا بالعيون يتشاورون في الانسلال من المجلس خفية لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من الإنكار والسخرية بالوحي ، قائلا بعضهم لبعض بالإشارة أو العبارة : ( بيان لحال المنافقين الذين كانوا يكونون في مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند نزول سورة هل يراكم من أحد ) أي من الرسول والمؤمنين إذا نحن انصرفنا كارهين لسماعها ( ثم انصرفوا ) يتسللون لواذا إلى مجامعهم الخاصة بهم ، والتعبير بـ ( ثم ) لبيان تراخي فعلهم عن وقت قولهم ، إلى سنوح فرصة الغفلة عنهم ولو أفرادا ، فكلما لمح أحد منهم غفلة من المؤمنين عنه انصرف ( صرف الله قلوبهم ) هذه الجملة تحتمل الدعاء والخبر ، لأن مضمونها النهائي في [ ص: 69 ] كلام الله واحد كما تقدم نظيره قريبا . والمعنى ، والاهتداء بآيات الله في القرآن ، المرشدة إلى آياته في الأكوان : ( صرف الله قلوبهم عن صدق الإيمان بأنهم قوم لا يفقهون ) أي سبب أنهم قوم فقدوا صفة الفقاهة الفطرية ، وفهم الحقائق وما يترتب عليها من الأعمال ، لعدم استعمال عقولهم فيها ، فهم لا يفقهون ما يسمعون من هذه الآيات لعدم تدبرها ، والإعراض عن النظر والتأمل في معانيها ، وموافقتها للعقل ، وهدايتها إلى الحق والعدل ، ذلك بأنهم اتخذوا أنفسهم أعداء وخصوما للرسول ، فوطنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به من غير بحث ولا تأمل فيه : أمعقول أم غير معقول ؟ أحق أم باطل ؟ أخير أم شر ؟ أهدى أم ضلال ؟ أنافع أم ضار ؟ فأنى يرجى لهم وهذه حالهم أن يهتدوا بتعدد نزول الآيات والسور ؟ إنما مثلهم كمثل أعداء الإسلام من أهل الملل التي جروا على نظام تعليمي وتربية وجدانية عملية في عصبيتهم الدينية والقومية ، وارتباط منافعهم الاجتماعية والسياسية بها ، لقنهم رؤساؤهم أنه يوجد دين اسمه الإسلام بني أساسه على عداوتكم لذاتكم ، فيجب عليكم ألا تنظروا فيه إلا أن يكون للبحث عن مطعن ولو متكلف تلمزونه به ، ولا تفكروا في شيء من حال أهله في دينهم ودنياهم إلا للعداوة والتحقير لهم ، وتدبير المكايد للعدوان عليهم ، وإذا ظهر لكم شيء حسن من دينهم فوجهوا كل قواكم العقلية وبلاغتكم الكلامية إلى تشويهه وذمه والصد عنه ، وهذا ما يفعله رجال الكنائس النصرانية على اختلاف مذاهبهم ، كما بيناه في غير هذا الموضع .
ومن المباحث الكلامية في الآيات الخلاف في ، على مذهبين في إثبات ذلك ونفيه ، وجمهور السلف من الصحابة والتابعين وحفاظ السنة على الإثبات . وهذه المسألة من أغرب مسائل عصبيات المذاهب عند النظار الجدليين ومقلديهم ، وما كان ينبغي لمسلم أن يجعل هذا موضع الخلاف لبحث بعض من ينتسب إليهم في مفهوم لفظ الإيمان الذي يتحقق باعتقاده الدخول في الملة هل يقبل الزيادة والنقصان في ذاته ؟ أم المراد من هذه الآية وما في معناها متعلق الإيمان من العقائد والأحكام التي كانت تشتمل عليها السورة ؟ واستبعاد أن يكون التصديق الذي يكون به الكافر مؤمنا قابلا للزيادة والنقصان ، وهي نظرية باطلة ، وقد بينا معنى الآية بما يدل على أن قصر زيادة الإيمان فيها على التصديق بزيادة العلم بما تضمنته باطل ; لأن هذا بديهي لا يمكن أن يكون هو الذي سأل عنه المنافقون ، ونصوص القرآن الكثيرة صريحة في زيادة الإيمان ونقصه ، وكذلك الأحاديث الصحيحة التي صرح فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن أقل الإيمان وهو المنجي من الخلود في النار كالذرة أو الخردلة من الإيمان الكامل الذي لا يمس لأهله من عذاب النار شيء ، كالذين وصفهم الله بقوله : ( زيادة الإيمان ونقصه إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) ( 8 : 2 ) إلخ . وقوله : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) ( 49 : 15 ) إلخ .
[ ص: 70 ] والتحقيق أن اليقين في الإيمان وغيره له درجات متفاوتة في القوة والضعف ، هو اليقين اللغوي وهو الاعتقاد الجازم في غير الحسيات والضروريات كما بيناه في مواضع أولها تفسير ( واليقين الذي يصح به الإيمان وبالآخرة هم يوقنون ) ( 2 : 4 ) وهو درجات : منها التقليد الجازم ، ومنها المعلوم بالنظر والاستدلال . وقد يطرأ عليهما الشك والزوال ، ولولا ذلك ما تصور ارتداد مؤمن عن دينه ، ومنها ما يصير وجدانا ضروريا بشرح الصدر ، والنور الإلهي ، بكثرة الذكر والفكر والعبادة .
وأما اليقين المنطقي والعلم القطعي بالبرهان بأن هذا الشيء كذا مع العلم القطعي باستحالة أن يكون غير كذا ، فهو هو الذي قالوا : إنه لا يقبل الزيادة والنقصان ، ولكنه نادر الوقوع في غير الضروريات ولا تتوقف عليه صحة الإيمان ، ومع هذا يمكن أن يقال : إنه قابل للزيادة في وصفه وطمأنينة القلب به ، وفي ترتب آثاره عليه .
ومثال الأول أن ترى شبحا في سدفة الفجر فتعلم أنه إنسان في انتصاب قامته ثم تزداد علما به كلما انتشر الضياء حتى يكون العلم به تفصيليا . والبرهان المنطقي المفيد لهذا اليقين عندهم لا تكون مقدماته النظرية في درجة الضروريات قوة وثباتا . وقد : علم اليقين وهو ما يعلم بالدليل ، وعين اليقين وهو ما يكون بالمشاهدة والكشف ، وحق اليقين وهو ما يكون بالذوق والوجدان . ومثل لها بعضهم بالفناء عند الصوفية ، وبعضهم بالموت ، فكل أحد عنده علم اليقين بأنه يموت ، فإذا عاين ملائكة الموت عند الحشرجة وقبل قبض الروح كان عين اليقين ، فإذا مات بالفعل وصل إلى درجة حق اليقين ، لكن هذه الدرجة وما قبلها لا يتعلق بهما التكليف . قسم بعضهم اليقين إلى ثلاث درجات