ونختم تفسير الآيتين بتحقيق مسألتين ذكرتا في تفسيرهما المأثور ولم نر أحدا حققهما : ( الأول ما ورد في كتابة الآيتين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكونهما آخر ما نزل    ) 
إن معنى هاتين الآيتين لا يظهر إلا في دعوته - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام بمكة   [ ص: 74 ] في أول زمن البعثة . وقد ذكرت في الكلام على هذه السورة قبل البدء بتفسيرها أن ابن أبي الفرس  قال : إنهما مكيتان ، وأنه يرد قوله ما ورد من أنهما آخر ما نزل من القرآن ، ثم ذكرت هنالك أصح ما ورد في آخر ما نزل من القرآن وهو غير هاتين الآيتين . 
وأقول الآن : إن قول ابن أبي الفرس  هو الوجيه من جانب المعنى ، فهو يؤيد الرواية وأما القول بأنهما آخر ما نزل  فقد أخرج في بعض المسانيد والتفاسير المأثورة عن  أبي بن كعب  بألفاظ متقاربة ( منها ) عن  ابن عباس  عنه : أن آخر آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ أن آخر ما أنزل من القرآن ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم    ) إلخ الآية ( ومنها ) عن الحسن  عنه أنه كان يقول : إن أحدث القرآن عهدا بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم    ) إلى آخر السورة   ( ومنها ) من طريق أبي العالية  عنه أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر  ، فكان رجال يكتبون ويمل عليهم  أبي بن كعب  حتى انتهوا إلى هذه الآية 127 من سورة براءة ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون    ) فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال  أبي بن كعب  إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقرأني بعد هذا آيتين " ( لقد جاءكم    ) " إلى " ( رب العرش العظيم    ) " قال : فختم الأمر بما فتح به : بلا إله إلا الله ا هـ ، وهو صريح في أنهما آخر ما نزل من هذه السورة لا من القرآن مطلقا إلا إذا صح أن سورة براءة آخر سورة نزلت ، والصحيح في الرواية أن آخر ما نزل من السور سورة النصر ، ومن الآيات ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله    ) ( 2 : 281 ) كما تقدم في محله . 
وفي حديث  زيد بن ثابت  في جمع القرآن المكتوب الذي كان متفرقا في عهد أبي بكر  عند ابن سعد  وأحمد   والبخاري   والترمذي   والنسائي  وغيرهم - أنه قال : حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع  خزيمة بن ثابت الأنصاري   لم أجدهما مع أحد غيره : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم    ) إلى آخرهما ا هـ . والمراد أنه لم يجدهما مكتوبتين عندما جمع المكتوب في الرقاع والأكتاف والعسب في هذه السورة إلا عند خزيمة  ، وفي رواية في  البخاري  وغيره عند أبي خزيمة  وهي أرجح كما سيأتي ، إلا أن تكونا وجدتا عند كل منهما وكانتا محفوظتين معروفتين للكثيرين كما صرح به في الروايات الأخرى ، فقد أخرج  ابن إسحاق  وأحمد  وابن أبي داود  في المصاحف عن  عباد بن عبد الله بن الزبير  قال : أتى الحارث بن خزيمة  بهاتين الآيتين من آخر براءة ( لقد جاءكم رسول    ) إلى قوله : ( وهو رب العرش العظيم    ) إلى عمر  فقال من معك على هذا ؟ فقال : لا أدري والله إلا أني أشهد لسمعتهما من   [ ص: 75 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعيتهما وحفظتهما ، فقال عمر    : وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة ، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها بها ، فألحقت في آخر براءة ، وأخرج  ابن جرير  وابن المنذر  وأبو الشيخ  أن رجلا من الأنصار  جاء بهما عمر ،  فقال : لا أسألك عليها بينة أبدا كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها . 
وأخرج ابن أبي داود  في المصاحف أن  خزيمة بن ثابت  جاء عثمان  حين تصدى لكتابة القرآن  بعد مقتل عمر  فقال : إني رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما ، فقالوا ما هما ؟ قال تلقيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم    ) إلى آخر السورة . فقال عثمان    : وأنا أشهد أنهما من عند الله فأين ترى أن نجعلهما ؟ قال اختم بهما آخر ما نزلت من القرآن فختمت بهما براءة   . 
فيؤخذ من مجموع الروايات أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين إلا أنهم اختلفوا في موضعهما ، ففي بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بعضها أنهما وضعتا بالرأي والاجتهاد ، والمعتمد الأول قطعا لأن من حفظ التوقيف حجة على من لم يحفظ . والظاهر أن سبب الاختلاف في موضعهما أن موضوعهما يدل على أنهما مكيتان . ولم تصح لجماعة جامعي المصحف رواية بكتابتهما في إحدى السور المكية ولكن وجدتا عند أبي خزيمة مكتوبتين في آخر براءة . وفي الصحيح أن  زيد بن ثابت  الذي كان يكتب الوحي لرسول الله    - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي أمره أبو بكر  بجمع القرآن مع آخرين ، وكان عمر  يحضرهم وهم يكتبون قال : فوجدت آخر براءة مع  خزيمة بن ثابت  أو أبي خزيمة    . بالشك وهو من الراوي لا من زيد  ، وفي رواية عنه مع خزيمة  والتحقيق الذي قرره الحافظ ابن حجر  أن آخر التوبة وجد عند أبي خزيمة  ، وأما الذي وجد مع خزيمة  فهو آية الأحزاب ، وذلك ما رواه  البخاري  في تفسير سورتها عن  زيد بن ثابت  قال لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع  خزيمة الأنصاري  الذي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادته شهادة رجلين ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه    ) ( 33 : 23 ) . 
قال الحافظ في شرحه هذا يدل على أن زيدا  لم يكن يعتمد في جميع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه . لكن فيه إشكال ; لأن ظاهره أنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده ، والقرآن إنما يثبت بالتواتر . والذي يظهر في الجواب أن الذي أشار إليه أنه فقده فقد وجودها مكتوبة ، لا فقد وجودها محفوظة ، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره ، ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن ( ( فجعلت أتتبعه من الرقاع والعسب ) ) كما سيأتي مبسوطا في فضائل القرآن ا هـ 
وأقول : إني قد ذكرت آنفا أن هذا هو المراد منه ، وهو ما كنت أفهمه دون   [ ص: 76 ] غيره ، وأجيب به من سألني عنه مستشكلا . فقول الحافظ : والذي يظهر إلخ . كان يجب أن يكون : والذي يتعين القطع به كذا ، وحسبك دليلا على هذا أنه قال : إنهم كانوا يسمعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ، فهو صريح في أن البحث كان عمن كتبها فقط ، وجملة القول : أن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة ، وإنما اختلفوا عند الجمع في موضع كتابتهما حتى شهد من شهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وضعهما في آخر سورة براءة وفاقا لقول  أبي بن كعب  الذي ثبت في الصحيح أنه أحد الذين تلقوا القرآن كله مرتبا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا  زيد بن ثابت    . وكان عدد المختلفين في موضعهما قليلا ، فلما كتبتا في المصاحف وافق الجميع على وضعهما هاهنا . ولم يرو أي اعتراض على ذلك عمن كتبوا لأنفسهم مصاحف اعتمدوا فيها على حفظهم  كابن مسعود    - رضي الله عنه - . 
بقي البحث في حكمة وضعهما في آخر هذه السورة المدنية ، وموضوعهما مكي ، يؤيده كون الخطاب فيهما لقومه - صلى الله عليه وسلم - على ما جزم به جماهير المفسرين وما هما بأول ما وضع من الآيات المكية في السور المدنية لمناسبة اقتضت ذلك . ولعل الحكمة في ذلك أن يفيدا بموضعهما صحة الخطاب بهما لكل من تبلغه الدعوة من أمة الإجابة ، وهو ما ذهب إليه الخطابي  ، كما دل موضوعهما ونزولهما بمكة    - كما قال ابن أبي الفرس    - على كون الخطاب فيهما لقومه - صلى الله عليه وسلم - ، وهو ما جزم به الجماهير . ويكون ما قلناه جامعا بين الأقوال كلها . 
				
						
						
