( طهارة نسبه - صلى الله عليه وسلم - وفضل قومه واصطفاؤه من خيارهم ) 
من المأثور في تفسير الآيتين ما ذكروا في قوله تعالى ( رسول من أنفسكم    ) من الأحاديث المرفوعة في طهارة نسبه - صلى الله عليه وسلم    - من سفاح الجاهلية ومن فضل قومه وعشيرته  وعترته وأهل بيته على غيرهم ، وأصح ما ورد في هذا ما رواه مسلم   والترمذي  من حديث واثلة    - رضي الله عنه - مرفوعا ( ( إن الله اصطفى كنانة  من ولد إسماعيل  ، واصطفى قريشا  من كنانة  واصطفى من قريش  بني هاشم  ، واصطفاني من بني هاشم    ) ) ولم أر لأحد من العلماء بيانا لمعنى هذا الاصطفاء بم كان ؟ وقد وفقني الله لاستنباطه من التاريخ العام ، وبينته في المنار وفي خلاصة السيرة المحمدية في جواب السؤال عن حكمة بعثة خاتم النبيين ، وبالرسالة العامة للناس أجمعين  ، بالدين العام للبدو والحضر ، من العرب الذين غلبت عليهم جهالة البدو ، وبعد عهدهم بما سبق لأمتهم من الحضارة والعلم ، ولم يبعث من بعض شعوب الحضارة القريبة كالفرس والروم والهند والصين ، ويليه السؤال عن مزية كنانة  في العرب   [ ص: 77 ] من آل إسماعيل  ، الذين امتازوا على سائر العرب بأنهم ممن اصطفى الله من آل إبراهيم  ، ثم عن مزية قريش  في بني كنانة  ، وفضل بني هاشم  على سائر قريش  ؟ 
خلاصة ما بينته في فضل العرب على سائر الأمم  ، الذي أعدهم به الله لبعثة سيد البشر من العرب والعجم ، بالدين العام الباقي هي : أن جميع شعوب الحضارة المشار إليها وغيرها كانت قد فسدت غرائزها وأخلاقها الفطرية ، وعقائدها الدينية ، وآدابها التقليدية ، بفساد رؤساء الدين والدنيا فيها ، وتعاون الفريقين على استعبادها واستذلالها لهما ، وتسخيرها لتوفير لذاتهما وتشييد صروح عظمتهما ، بسلب حريتهم العقلية بالتقاليد الدينية التي يفرض عليهم الكهنة والأحبار والقسوس الخضوع لها ، بدون أن يكون لهم أدنى رأي أو اختيار أو فهم فيها ، بسلب حرية إرادتهم في حياتهم الشخصية والاجتماعية بما يضع لهم الملوك والحكام من القوانين والنظم الإدارية والعسكرية الاستبدادية ، وبتحكمهم فيهم بدون قانون ولا نظام أيضا ، فجميع الأمم والشعوب كانت مرهقة مستعبدة في دينها ودنياها إلا العرب ولا سيما عرب الحجاز    . 
وأما العرب فلم يكن عندهم رياسة حكم استبدادية تستذلهم وتفسد بأسهم وتقهر إرادتهم على ما لا يريدون ، ولا رياسة دينية تقهرهم على اتباع تقاليد لا يعقلونها بل كانوا على أتم الحرية العقلية واستقلال الإرادة في دينهم ودنياهم ، وفي أعلى ذروة من عزة النفس ، وشدة البأس فبحرية عقولهم كانوا على أتم الاستعداد لفهم دين العقل والفطرة ، وباستقلال إرادتهم كانوا على أكمل الاستعداد للنهوض بما اعتقدوا حقيته وصلاحه وخيريته ، ولإقامته في قومهم ، ونشره في غيرهم ، والدفاع عنه باختيارهم ، وتصرفهم في كل ذلك بمقتضى الوازع النفسي ، دون تحكم رئيس ديني ولا دنيوي ; فإن هذا الدين إنما أوجب طاعة الأئمة والقواد بالمعروف والإذعان للشرع ، وما تضعه الأمة لنفسها من النظام بالشورى بين ممثليها من أهل الحل والعقد ، حتى فرض الله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشاورتها في أمورها ، وقال له ربه في صيغة مبايعة نسائها له : ( ولا يعصينك في معروف    ) ( 60 : 12 ) وبها كان يبايع الرجال كالنساء ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق إنما الطاعة في المعروف   ) ) رواه  البخاري  ومسلم  وأبو داود   والنسائي  من حديث علي  كرم الله وجهه . 
وأما كنانة  فقد كان أشهر ذرية إسماعيل  في العلم والحكمة  ، والكرم والنبل ، حتى كانت العرب تحج إليه ، وينقلون عنه حكما رائعة ، وكفى بهذا اصطفاء عليهم ، وامتيازا فيهم . 
وأما امتياز قريش  على سائر العرب  فهو معروف متواتر ، وأهمه أن ما ذكرناه من عزة النفس ، واستقلال الإرادة والعقل كان أكمل فيهم ، فإن بعض العرب في أطراف جزيرتهم خضعوا لسيادة الفرس  والروم  خضوعا ما ، وجملته أنهم كانوا أصرح ولد إسماعيل  أنسابا ، وأشرفهم أحسابا ، وأعلاهم آدابا ، وأفصحهم ألسنة ، وهم الممهدون لجمع الكلمة العامة ، بعد أن جمع ( قصي ) جميع قبائلهم بمكة  ، واستقلوا بخدمة المسجد الحرام  من الحجابة وسقاية الحاج والرفادة - وهي إسعاف الفقراء والمساكين من الحجاج وغيرهم -   [ ص: 78 ] وأسسوا دار الندوة لأجل الشورى في الأمور المهمة ، وكانوا أعرف العرب ببطون العرب في جميع جزيرتهم بما كانوا يتناوبونه من رحلة الشتاء والصيف ، وبذلك كانوا أغنى العرب أيضا وأشرفهم بلا منازع ، وناهيك بما عقدوا من حلف الفضول في حداثة سن الرسول ، وهو أنهم تعاقدوا أو تعاهدوا ألا يجدوا بمكة  مظلوما إلا قاموا معه ، وكانوا عونا له على من ظلمه إلى أن ترد مظلمته . 
وفي حديث  الزبير بن العوام   وأم هانئ  عن  الطبراني  وتاريخ  البخاري  ، ( ( فضل الله قريشا  بسبع خصال    : فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبد الله إلا قرشي ( أي لا يعبده وحده من العرب إلا قرشي ) وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون ( أي نصرهم على قوة تفوق قوتهم كثيرا بما يشبه نصره لرسله في كونه بدون استعداد كسبي يقرب من استعداد عدوهم ) وفضلهم بأنه نزل فيهم سورة من القرآن ، لم يدخل فيها أحد من العالمين وهي : ( لإيلاف قريش ) ( 106 : 1 ) وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة والحجابة والسقاية   ) ) 
وأما اصطفاؤه تعالى لبني هاشم  على قريش   فقد كان بما امتازوا به من الفضائل والمكارم ، فقد كان جدهم هاشم  هو صاحب إيلاف قريش  الذي أخذ لهم العهد من قيصر الروم  على حمايتهم في رحلة الصيف إلى الشام  ، ومن حكومة اليمن  في رحلة الشتاء ، وهو أول من هشم الثريد للفقراء  من قومه ولأهل موسم الحج كافة ، وقد أربى عليه في السخاء والكرم ولده عبد المطلب  ، وجملة القول أن بني هاشم  كانوا أكرم قريش  أخلاقا وأبعدهم عن الكبر والأثرة ، ولا ينازعهم أحد في ذلك ، وقد قال أبو جهل  في حسده إياهم على كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف  الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا . . . حتى إذا زاحمناهم بالمناكب قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك هذه ؟ ويؤخذ منه أنهم كانوا يعلمون أن النبوة لا يمكن أن تكون بالاجتهاد والمباراة الكسبية في الفضائل ، وأن القرآن لا يمكن أن يعارضه أحد في بلاغته ولا هدايته ; لأنه من الله لا من علم محمد    - صلى الله عليه وسلم - وفصاحته وبلاغته ، ولولا ذلك لعارضه من كانوا أشهر العرب في ذلك ولم يكن محمد منهم . 
وقد ورد في فضل هذه الخاتمة  لهذه السورة المباركة ما رواه أبو داود  عن  أبي الدرداء  موقوفا  وابن السني  عن  أبي الدرداء  مرفوعا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( من قال حين يصبح وحين يمسي : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم    - سبع مرات - كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة   ) ) كذا في الدر المنثور ، ويراجع ما قاله ابن كثير  في آخر تفسير السورة فيه ، وهو لا يمنع العمل به ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، والحمد لله رب العالمين . 
( تم تفسير سورة براءة بفضل الله وتوفيقه في شهر صفر سنة خمسين وثلاثمائة وألف وبقي تلخيص ما فيها من أصول الدين وأحكامه وسياسته وآدابه وسنن الله في ذلك ، فنسأله تعالى توفيقنا فيه للحق الذي يرضاه وينفع عباده ) . 
				
						
						
